حتى لا ننكسر
مواكبة للثورة التكنولوجية، ستحتاج من البشرية إلى ثورة تعليمية، إلى تغيير كامل وشامل لفلسفة التعليم في عمقها: أهدافها، أساليبها، المخرجات المتوقعة منها، طرق التقييم فيها، وحتى «الميزانسان» أو المحيط أو الوسط الذي ستتم فيه هذه العملية التعليمية. لقد تغيرت الدنيا كثيراً في العشرين سنة الماضية، وأصبحت المعلومة، التي كانت «عزيزة» في الماضي وحكراً على طبقة أو فئة معينة، متاحة الآن ومشاعة للجميع، كما أصبحت المهارة التي كانت ملكاً لفئة معينة ومحدودة الانتقالية في خط هذه الفئة، معروضة صوتاً وصورة، يسهل تعلمها للراغب فيها، من خلال مواقع إلكترونية وفيديوهات ودورات إنترنتية فتحت أبواب المعرفة والتمرين على مصراعيها.
وعليه، إذا توفرت المعلومة وسهلت وسائل البحث عنها، وإذا تيسر تعلم المهارة ورخصت (أو أصبحت مجانية) تكاليف التحصل عليها، ماذا بقي لكي تقدمه المؤسسات التعليمية بكل أنواعها للمقبلين على التعليم؟ ومع توفر مواقع إلكترونية، آخرها موقع «شات جي بي تي »القادر على أداء أي فروض دراسية أو مهاراتية، علمية بحتة أو فنية أو إنسانية، بشكل شبه مثالي، ما الذي سيغدو مادة للتقييم؟ إذا كانت مهارات الحفظ والقراءة والكتابة وحتى التفكير والتحليل كلها ليست فقط متوافرة ولكن كذلك ممنوحة بلا جهد، حيث سيقرأ عنك الإنترنت وسيكتب وسيحلل وسيحضِّر الأوراق العلمية والعروض المرئية والمسموعة، ماذا سيبقى للتعليم والتقييم؟ لربما سيكون هذا السؤال مهماً ومفصلياً لرسم سياسات وفلسفات التعليم على مدى الخمسين سنة رهيبة التكنولوجيا القادمة.
والتغيير سيكون صعباً وعصياً تحديداً في المجتمعات الروتينية، التي تجد في هذا التغيير ضرباً من الخيانة والابتداع بل والانحراف. فإذا كانت العلوم البحتة والعلوم الإنسانية ستقاوم بعض الشيء التغييرات التي ستُفرض عليها لا محالة تعليماً وتقييماً، فكيف سيكون حال العلوم الدينية؟ وكيف سيتقبل المجتمع، حتى الأكاديمي منه، في شرقنا المسكين إلحاح التغيير الشامل الكامل ليس فقط لطرائق التعليم والتقييم ولكن لطبيعة المادة المعروضة بحد ذاتها ولفلسفة تقديمها؟ هل ستستطيع مجتمعاتنا التعامل مع رفض الزمن القادم لفكرة حتمية المعلومة الدينية؟ هل ستتقبل التوجه المناهض من حيث تحدي المعلومة ومساءلتها؟ هل سيُفتح باب الحوار على مصراعيه كما يجب أن يكون عليه الحوار العلمي؟ وهل ستُبقل الدراسات المخالفة والمناهضة للسائد الديني؟ هل سيستطيع العالم المشيخي أن يكون مضيافاً للأفكار التي لا بد وبلا شك سترد من أجزاء أخرى من العالم والتي سيتفحصها أبناء عالمنا ويدخلونها في الحوار بل وقد يتبنونها؟ كيف سيكون شكل التعليم الديني في الخمسين سنة القادمة؟
السؤال الأكثر صعوبة وحساسية هو، هل يمكن استكمال تدريس مناهج التربية الإسلامية بأسلوبها الحالي وفي المدارس الحكومية لتصبح فرضاً على جميع الطلبة بغض النظر عن طوائفهم وتوجهاتهم؟ بل هل يصح تدريس مادة التربية الإسلامية للطلبة الذين ينتمون لذات الديانة وذات الطائفة دون الأخذ في الاعتبار التوجهات الشخصية التي هي مكون أساسي من مكونات ممارسة العبادة في أي دين من الأديان؟ هل سيتفق كل السنة، على سبيل المثال، على منهج التربية الإسلامية المقدم في مدارس الدول السنية، وكذا السؤال بالنسبة للدولة الشيعية المعلنة والتي هي إيران؟ هل يصح، فلسفياً وأخلاقياً، فرض تعليم عقائدي موحد على الأطفال بغض النظر عن التوجهات المختلفة لبيوتهم وعائلاتهم والتي قد تشكل أقليات دينية في بلدانهم؟
كنت قد دعوت سابقاً لضرورة إيقاف التعليم الفقهي الديني في المدارس الحكومية، وترك ذلك لمدارس خاصة بعد الفترة الرسمية، يختار أولياء الأمور منها ما يناسب توجهاتهم ليدرجوا أبناءهم فيها مرة أو أكثر في الأسبوع للتحصيل الديني مثلما هو واقع في الدول الغربية، لكن هذا الرأي لم يفتقر للقبول فقط، بل استدعى تهديداً برفع قضية ازدراء أديان، حيث من غير الواضح كيف وأين استشعر صاحب المقترح ذلك. إلا أن الواقع يبقى أن رأيي المسكين سيصبح رأياً ساذجاً وضعيف التحرر الفكري أمام القادم من المقترحات والتوجهات التي سيفرضها الزمن القادم شئنا أم أبينا. هذا وسيأخذ التعليم العالي الديني القادم كذلك منحى مختلفاً، انعطافاً حاداً ضد كل الفرض والقمع التعليميين والحتميات الفكرية والقطعيات الفلسفية التي حكمت الفقه والفكر الديني قروناً طويلة.
آت هو الزمن الذي ستتغير فيه كل التوجهات الفاشية في التعليم عندنا، حيث سيتبنى الفكر المجتمعي عموماً والديني تحديداً أكثر القضايا التي كان يعاديها وينفر منها، وسيضطر هذا الفكر للمهادنة واللين والتماشي مع زمن عاصف لا يمكن الوقوف بصلابة وعناد ضده، فلو فعل، هو حتماً… سينكسر.