حب المراهقة
مثل المسلسلات اللاتينية الملحمية، مثل البطولات التراجيدية غير الكلاسيكية، بل تلك السطحية الكاريزماتية الجاذبة الشرسة، مثل روايات عبير التي كنا نسربها إلى غرف نومنا ونحن مراهقات خفية عن أهالينا وكأنها مخدرات خطرة، مثل المسلسلات التركية العاطفية مئوية الحلقات، هكذا كان مسلسل «جعفر العمدة» الذي وقعت الشعوب العربية في حبه بمراهَقة وشغف. لست هنا أنتقد المسلسل حقيقة من حيث «رسالته الفنية»، فالدور الوعظي والفرض الأخلاقي الذين يتوقعهما المنظِّرون حين تقييمهم للفن يأكلان من طبيعية هذا الفن وانطلاقته وأحياناً شراسته «النيئة» التي يفترض أن تكون أحد الأنواع الموضوعية التي تقدمها الفنون المرئية والمسموعة.
وعلى الرغم من أن رغبتي الحقيقية هي في الكتابة عن مسلسل «تحت الوصاية» لكاتبيه خالد دياب وشيرين دياب، بعمقه وإلحاح موضوعه وروعة زوايا كاميراته والجمال الخلاب لمواقع تصويره وإتيانه بمجتمع لا نعرف عنه الكثير ومواقع وأماكن لم نعتدها إلى الشاشتين الكبيرة والصغيرة وروعة وإتقان أداء ممثليه جميعهم بلا استثناء، حتى إنني تشككت أن الممثلين الذين أدوا أدوار عمال و»ريسين» الميناء هم حقيقة من هذا المحيط ولم يكونوا ممثلين بتاتاً، إلا أن «جعفر العمدة» باختلاف تصويره وسطحية ملحميته وغرابة مشاهده ألح عليّ كموضوع مقال في ظل كل النقد والشغف اللذين رافقا عرض هذا المسلسل.
والمسلسل يفترض أنه تصور في أحد أعرق الأحياء الشعبية في مصر، حي السيدة زينب، لكن مواقع التصوير في المنطقة، أو ما يفترض أنها المنطقة، وخصوصاً في الفترة الليلية التي كثيراً ما أخذت مكانها في المسلسل، بدت وكأنها أحد شوارع نيويورك أو لاس فيغاس، حيث الأنوار المضاءة التي تملأ الشارع النظيف، وحيث الإعلانات المرتفعة البراقة التي تشير إلى نشاط الشارع الترفيهي المستمر سهراً وسمراً وعملاً بل وتواصلاً بين أصحاب المنطقة بحد ذاتها بلا توقف. بدت المنطقة في المسلسل كأنها حي معزول عن بقية القاهرة، كأنها قطعة من مدينة مكسيكية، من حيث الموضوع، يتصارع عليها عميدا أكبر وأثرى عائلتين فيها، في أعمالهما شبهات كثيرة، كأنهما رئيسا عصابتي مافيا خطرة، لا تستطيع بقية المنطقة سوى الرضوخ لهما والتفرج على صراعاتهما.
أما شخص جعفر العمدة فهو بلا أدنى شك مستوحى من بطل روايات عبير القديمة التي لا بد أن تتذكرها كل مراهقات ثمانينيات القرن الماضي، ذلك الرجل الذي عادة ما يكون من جنوب أمريكا، في منتصف أربعينياته، جذاب وقوي ومفعم «بالرجولة» بمعناها الحرفي التقليدي، شديد الغنى، مرهف المشاعر، يعشق النساء ويحصل على من يبتغي منهن، تاركاً إياهن نهبة لمشاعر الغيرة ولحماقات التنافس عليه. هذا الرجل، كما كان يَرِد في روايات عبير، ينطلق بمباشرة وقوة وبلا تردد للحصول على معشوقته، إما خطفاً أو تهديداً أو ابتزازاً، لينتهي بها الأمر للوقوع في عشقه بلا قيد أو شرط. يغمر بطل هذه الروايات معشوقته بحبه وأمواله ويبهرها بقوته وسلطانه وعلاقاته اللامحدودة، يحملها بين يديه. بين لقطة ولقطة من الرواية، يجبرها على الحب، وأحايين كثيرة يضربها ضرباً متصف بالرغبة أكثر منه بالقسوة والعنف، لينتهي بها الأمر بالرضوخ له حباً وعشقاً وهياماً، ولتنتهي القصة بهما يعيشان «سعداء إلى الأبد». إبان كل ذلك، لا بد أن يكون لهذا البطل قضية، مأساة تعطيه ما يفترض أن يكون عمقاً، ملحمة إنسانية تسيطر على حياته يسعى هو لتفكيكها، فيما هو يعيشها إلى آخر نفس. ينتصر «البطل اللاتيني» في النهاية، فيحظى بالحب إلى جانب السلطة والمال، وتنتهي الصورة الروائية بالشابة الضعيفة الشقراء خلابة الجمال بالرضوخ بين يديه والهيام بحبه والعيش معه على جزيرته النائية أو في قصره المعزول العظيم. هذه هي سردية «جعفر العمدة» بتمامها، سوى في بعض التفاصيل الصغيرة «لتمصير» و»تعريب» الحكاية وإضفاء بعض الصفات الأخلاقية الشرقية عليها.
بتمامه وكماله، يبدو مسلسل «جعفر العمدة» فانتازيا غريبة الفحوى في جمعها لبعض أفكار ووقائع حياة المجتمع المصري بصور مواقع وأماكن وبأشكال وتصرفات لأشخاص تبدو مقتطعة من روايات عصابات المافيا المستوردة من النصف الآخر من الكرة الأرضية. ليس هذا في الواقع بغريب على مخرج العمل، محمد سامي، الذي قدم فانتازيا مشابهة في «نسل الأغراب» الذي كان ذا عمق أكبر بعض الشيء والذي استخدم الصورة الإبهارية و»المكان الذي هو أكبر من الواقع» لجذب المشاهد في ذلك المسلسل. دار «نسل الأغراب» في صعيد مصر، صعيد لا يشبه الصعيد الذي نعرفه، وإنما هو صورة فانتازية إكزوتيكية له. كان أداء أحمد السقا في «نسل الأغراب» غريباً جداً في جموده اللامشاعري، كأنه ينتهج منهج المدرسة البرختية التي تقول «بسرد وتقديم» الشخصية لا بتمثيلها، في حين كان أداء أمير كراره ملحمياً يقترب من أداء محمد رمضان في «جعفر العمدة». في كل الأحوال، بدت بصمة محمد سامي واضحة تماماً، لربما مكررة ومستهلكة، في تقديمه للبطل الملحمي السطحي خارق الجاذبية، في تقديمه للعدو الكارزماتي الشرير، في تقديمه للجميلة التي ستنتهي إما بالحب أو الموت، وفي تقديمه للصورة الإبهارية التي «صوتها» يقول بمصر، وشكلها ومظهر أصحابها يقول بموقع آخر معزول مبهر من هذا العالم أو لربما هو من خارجه كلياً.
جذبني «جعفر العمدة» وتابعته بإصرار بعد انقضاء رمضان منتهية من حلقاته في أسبوع واحد. أعرف أن ما جذبني هو شعور مراهقاتي غرائزي النزعة للصورة المهبرة وللبطل الذي لا بد أن يفوز ويصل لمبتغاه ويحمي أنثاه ومحيطه، وأعترف أنني استسلمت لهذه المتعة البدائية الشرسة الخالصة. إلا أن المسلسل سرعان ما غادرني بعد الانتهاء منه، ليبقى «تحت الوصاية» صورة وأداء ومنظراً ومعنى، مسيطراً على ذاكرتي ومستثيراً لرغباتي التحليلية كمتخصصة في الأدب. شاهدت «جعفر العمدة» بحلقاته الثلاثين في أسبوع، أتابع الحلقات كخلفية لكل انشغالاتي، وشاهدت «تحت الوصاية» بحلقاته الخمس عشرة في أسبوعين، فيما كل عيني وحواسي على الشاشة الصغيرة. هكذا هو الفن، حر نبيل في خصومته وتنافسه، نتركه كله منطلقاً، وسيلقى هو الصدى الصحيح، وسيبقى منه ما يستحق البقاء فيما يوعز المتبقى منه للمتع المؤقتة التي لا تقل أهمية للبشر، فالمتع المؤقتة، مثل العميق الدائم منها، حق وحاجة لنا.