حبيتك في الصيف، كرهتك في الشتا
يصطدم مفهوم التعاضد النسائي الذي تدعو له الناشطات في الحراك النسوي، والذي كان محل عدد من المقالات التي كتبتها أنا مؤخراً، بنماذج من النساء قد يبدون “عسيرات” على التعاضد، مثل الشابة شميما بيغوم التي انضمت بحر إرادتها لتنظيم داعش، وهذه حالة لربما يسهل التفكير في حيثياتها والتعامل معها فكرياً، ومثل ياسمين عز، المذيعة المصرية التي أثارت الكثير من اللغط مؤخراً بحديثها التحريضي على النساء والمبارِك للمنظومة الأبوية التي تعذبهن كل يوم، وهذه هي الحالة التي تتطلب وقفة وتفرض الكثير من التعقيدات في عملية التعامل معها فكرياً ومبدئياً وعلاقاتياً، أي من حيث علاقتنا نحن كنساء بها.
شميما بيغوم كانت طفلة ذات خمسة عشر عاماً حين قررت الهرب من منزل أهلها في بريطانيا للانضمام لتنظيم داعش بتشجيع من إحدى صديقاتها. تزوجت شميما هناك وأنجبت طفلين توفيا نظراً لصعوبة الظروف وسوء الخدمة الطبية، لتقرر الهروب بزوجها وحملها الثالث عودة لموطنها في بريطانيا. إلى اليوم، تواجه شميما صعوبات جمة في استعادة جنسيتها البريطانية والدخول لبريطانيا، كما أن محاولات زوجها للانتقال بها إلى هولندا باءت بالفشل كذلك. كيف لنا كنساء أن نتفاعل مع حالة لطفلة، اليوم هي شابة، تم غسل دماغها لترتكب فعلاً خطيراً جداً، فعلاً يمثل قمة هرم ليس فقط الإجرام ولكن كذلك الانصياع الأنوثي للنظام الأبوي الشرس؟ هل واجب علينا، كنساء، أن نسامح ونحتوي وندعو لإعادة التأهيل أم علينا أن نرفضها لأن “ذنبها” أكبر من المغفرة.
أتصور أن حالة شميما قابلة لكثير من ليونة التعامل، ذلك أن حكايتها بدأت كطفلة، والتي لربما يلام عليها أهلها لو افترضنا إهمالهم لها، وإن كنت أعلم، كأم بحد ذاتي، أن مثل هذه الملامة ليست مستحقة أو صحيحة في كل الحالات وتحت كل الظروف. كما أن لحكايتها ذيولاً أيديولوجية خطيرة، مثل البرمجة الدينية والترهيب الدنيوي الأخروي، والتي تجعل القصة على درجة أكثر تعقيداً وخطورة. اليوم شميما شابة في الثالثة والعشرين، وهي نادمة أشد الندم ومعترفة تماماً بخطئها، إلا أن هذا الخطأ المتمثل في الانضمام لواحدة من أشرس المنظمات الذكورية العنيفة القامعة والمستغلة للمرأة، يجعل المغفرة ثقيلة، رغم استحقاقها، على النفس. ويبقى التساؤل أن هل يفترض اعتبار النساء اللواتي يرضخن لمثل هذه المؤسسات الغائرة في التطرف والذكورية خائنات لبنات جنسهن، مطرودات من منظومة التعاضد النسائي، أم أنه لا بد من اعتبارهن ضحايا للبرمجة وغسيل الدماغ الأبوي؟ أعتقد أن التعاضد النسائي هو المرجو هنا، هو الذي يفترض أن يفرض نفسه انطلاقاً من فهمنا لسهولة السقوط في فخ التكييف والبرمجة الدينيين القائمين على الترغيب والترهيب، وخصوصاً تجاه النساء، عشرات المرات بالحرق والقطع والتعليق وكافة أنواع التعذيب السادية الأخرى. أتصور أن الرحمة والمساندة هما المطلوبان اليوم مثلاً لتعود شميما للحياة الطبيعية وللصف النسائي الرحب الذي لن تجد أفضل منه ليتفهمها ويحتويها ويغفر لها.
المعضلة الفكرية والأخلاقية تتمثل في الموقف من والتعامل مع شخصية مثل ياسمين عز، هذه السيدة التي تحيا حياة مريحة وقد صنعت لنفسها طريقاً مهنياً ناجحاً محققة شهرة ومدخولاً مالياً يوفر لها الاستقلالية والأمان. ياسمين تخرج على شاشات التلفزيون متأنقة، متزينة، مرتدية الملابس العصرية، مستخدمة جمال مظهرها وعصريتها واستقلاليتها ومهنتها لإقناع النساء أنهن لسن بحاجة أو بالأحرى لسن بأهل للعصرية والاستقلالية والإنجاز مهنياً. تتنقل عز في نصائحها بين ما هو غاية في السخف والسماجة، مثل مطالبة الزوجة بتعلم “إتيكيت التعامل مع الزوج”، باستخدام “صوتها الشتوي” في حديثها معه، وبمنادة الزوج بالألقاب مثل “أستاذ”، وصولاً إلى ما هو غاية في الخطورة ومهدد فعلياً للحياة، مثل نصحها للزوجة أن تتحمل الضرب والتعنيف من الزوج، كما بدا من امتداحها لعروس الإسماعلية، التي تعرضت للضرب على يد زوجها يوم عرسها ثم للتعنيف إدخالاً قسرياً في السيارة، على تحملها وصبرها وغفرانها له. الأمثلة على خطاب ياسمين عز كثيرة، وكلها متوفرة على اليوتيوب، وأتصور أن هدف عز بحد ذاتها من هذا الخطاب هو ما أفعله أنا بحد ذاتي في مقالي هذا، فهل ما كان يفترض بي ذكرها في المقال، أم أن أبوية خطابها تحتاج لكشف ومصارحة نسويين؟
في رأيي، إما أن ياسمين عز على درجة من الذكاء بمكان أن عرفت أنها ستتمكن من تعبيد طريقها المهني بشكل أسرع وأكثر فاعلية لو أنها استمالت المجتمع الأبوي المسيطر على الإعلام ومفاصل الاقتصاد بصورتها العصرية الجميلة وفحوى حديثها الأصولي المحافظ القديم والذي تسرده بصوتها الشتوي الفخيم، أو أنها على درجة من الغباء بمكان أن سلمت عقلها وروحها للمجتمع ليجندها ضد نفسها، وليقلبها على جنسها، وعلى ما تستشعره بداخلها من قيمتها الإنسانية كامرأة تستحق الوجود والاحترام والفرصة في الحياة السعيدة المشبعة المتكاملة. لقد تمكنت عز من الجمع بين المتناقضات بوضوح وقبح وفجاجة، فلبست العصري وتكلمت بالغابر، ثم خلقت من هذا الغابر طريقاً مهنياً لها تنصح من خلاله النساء بترك المهنة وتكريس حياتهن للرجال. ليلح ذات السؤال، هل هي غاية في الذكاء حد خلق هذا الوضع المتنافر الذي صنع هذه الضجة ومعها اتساع شهرتها، أم هي غاية في الغباء حد خلق هذا الوضع المتنافر المثير للغثيان والذي خلق منها رمزاً لعداء المرأة للمرأة، وللعقل الذكوري في الجسد الأنوثي، ليورثها غضب كل عاقل ما استطاع بلع الفحوى “الصيفي” لكلامها “الشتوي”؟
والسؤال الأهم هنا لربما هو: ماذا يجب أن يكون موقفنا منها نحن كمجتمع نسائي؟ كيف يجب أن ننظر لها؟ كيف يفترض بنا أن نقيم أو نحكم على تجربتها؟ وكيف نتعامل معها، ومع مثيلاتها من النساء اللواتي هن إناث بالأجساد، وذكور بالعقول؟ هل نفقد الأمل ونتخلى عن هؤلاء، أم نبقى نحاول “إنقاذهن”؟ لربما يقدم المقال القادم قراءة في هذا السؤال.