حابسين أنفاسنا
أكتب مقالي هذا والأرقام التفصيلية والتحليلية الكاملة لم تنشر بعد لانتخابات مجلس الأمة الكويتي التي أقيمت يوم الخامس من ديسمبر، لذا لربما هذا تقييم أولي لحين اكتمال الصورة بالأرقام وتحليلاتها. أوضح مشهد في مجلس الأمة الجديد هو غياب الوجه النسائي عنه، لم تنجح ولا امرأة في هذا المجلس وإن اقتربت إحداهن من النجاح، في انعكاس للكثير من المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والعملية ولربما المادية كذلك التي لا تزال تواجه عمل المرأة في المعترك السياسي. تدور معظم التفاعلات السياسية في المجتمع الكويتي في الديوانيات الرجالية والتي على الرغم من اقتحام المرأة للكثير من مقارها، إلا أنها لا تزال محرومة من المشاركة الفاعلة في أنشطتها ومن الحضور المكتمل لمقارها في الدوائر الانتخابية المختلفة. أقول ذلك مع التحفظ على أن يتم تشكيل المشهد السياسي من خلال ديوانيات اجتماعية ليس لها أي صيغة مدنية حقيقية في الدولة الحديثة، ديوانيات تعتمد على التكتلات الأسرية والقبلية والعلاقاتية في تجمعها وتشكل آرائها.
على المرأة دائماً أن تقدم ضعف المجهود لتجني نصف الثمار، هكذا هو قدرها المسيطر في دنيا ذكورية السلوك. وعليه، لا يمكن نفي هذه الفكرية الكليشيهة لثقة معظم الشعب بالرجال عوضاً عن النساء، لا يزال المعظم يرى في التشريع فعل ذكوري، في القيادة السياسية موقع ذكوري، في التنصيب الرفيع استحقاق ذكوري، إنها نظرة غائرة في القدم، معجونة بالطبيعة العشائرية لمجتمعاتنا، مستندة على الإيمان الذكوري العالمي الراسخ بوجود الرجل في المقدمة. بكل تأكيد، للأيديولوجية الدينية دور كبير وإن كان آخذ في الانحسار، فخلال هذه الانتخابات، خفتت تماماً أصوات تحريم التصويت للمرأة والاستشكال حول إقدامها على التشريع ولوك الحوار السابق حول الولاية العامة والخاصة، اختفت هذه الحوارات كما اختفت حوارات سابقة حول حرمة تعليم الفتيات، حرمة قيادة المرأة، حرمة التصوير، حرمة الستلايت، وحرمات كثيرة أجبر الزمن “المحرِّمين” على تحليلها أو على الأقل السكوت عنها، بعد أن أصبح التصدي لها ليس فقط دلالة رجعية وتخلف ولكن كذلك مصدر للفكاهة والتندر.
المثير للانتباه أن المؤشرات تقول إن نتائج الانتخابات الفرعية المخالفة للقانون والتي تقوم بها بعض القبائل والأسر والطوائف قد تم إسقاط نتائجها من خلال أصوات المرأة، حيث لم ينجح معظم الفائزين بالانتخابات الفرعية سيئة الذكر بفضل توجه التصويتات النسائية. أي أن أصوات النساء أسقطت نتائج الفرعيات القبلية والأسرية والطائفية، ونظفت إلى حد كبير المشهد السياسي من مخرجات هذه الممارسات المريضة.
هذا، وقد بلغ التغيير في المشهد البرلماني الكويتي ما يقرب من 60%، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن عدد النساء يفوق عدد الرجال، سيؤكد ذلك على أن التغيير هو بالدرجة الأولى نتاج تصويت المرأة لا الرجل، والتي، رغم عدم إنجاحها لامرأة تمثلها في المجلس، قد نظفت إلى حد كبير هذا المجلس ممن أساؤوا لتاريخه النيابي وممن شرعوا فيه سلباً وظلماً في قضايا المرأة والحريات.
ورغم ميلي للتأكيد على كل العقبات التي تقف أمام المرأة في العمل السياسي، وهو تأكيد مستحق، إلا أنني أرى كذلك أهمية مراجعة النفس وتقييم الخطاب النسوي الذي قد يكون له دور في إبعاد المرأة عن المشهد الحالي. كان الصوت النسائي النيابي السابق في الكويت منفرد، تمثله امرأة واحدة ذات حس تمييزي طبقي متشدد، مما صبغ، ظلماً وسذاجة بالتأكيد، الحس النسائي عموماً بهذه الصبغة وثبت في عقول الناس صورة سلبية عن المرأة في المجلس. الخطاب النسائي الانتخابي هذه السنة بالعموم كان أقل حنكة، أقل عمقاً، وأكثر سذاجة، ولم أجده حقيقة، وفي لحظة تقييمية “مواجهاتية” مؤلمة، متناسباً وعمق الموقف السياسي الآني في الكويت. كذلك، من أشد نقدي على الخطاب الانتخابي النسائي في الكويت هو ابتعاده عن القضايا الإنسانية، ففي خضم خوضهن معركة الانتخاب، وفي انغمارهن في صراع نتفهم درجة صعوبته وحساسيته تحديداً لأنهن نساء، تفادت المرشحات الخوض الحقيقي والعميق في القضايا الإنسانية الحساسة الموجودة على الساحة الكويتية، والتي لربما أهمها قضية عديمي الجنسية، مما نفر بعض الأصوات، ومنهم صوتي، عن التوجه لهن، ليكون لمرشح واضح التوجه الإنساني. نعم، قدمت أنا المواضيع الإنسانية على الظهور النسوي، بين الاثنين، لابد من اختيار الموقف الإنساني، فالموقف النسوي الذي لا يُظهر الجانب الإنساني ولا يتعامل معه بوضوح وجدية وصرامة هو ببساطة ومباشرة ليس موقف نسوي ولا خطاب نسوي لا من قريب ولا من بعيد.
تغير مجلس الأمة الكويتي بنسبة كبيرة هذه الانتخابات، ذهبت وجوه كانت مسيطرة لردح من الزمن، وأتت وجوه جديدة، ولكن هل تغيرت الأفكار والسلوكيات؟ هل تبدلت درجات الشجاعة في المواجهة؟ هل تنقحت النوايا والأهداف؟ هذا ما سيبينه القادم من الأيام. نعم، سيكون مجلس جاف مجحف ناقص نقص حقيقي وجذري بغياب المرأة التي تمثل أكثر من نصف تعداد المواطنين، لكنه كذلك سيكون مجلس بوجوه جديدة، مخفف الاحتقان الطائفي، ذي رسالة (إلى حد ما) تجاه الموقف القبلي، واضح المزاج تجاه الموقف الطبقي، فمعظم الطبقيين متعالي النبرة سقطوا، ومن لم يسقط منهم سقط معظم حلفائهم، حيث سيكون هذا المجلس لربما مجلس تغريبي وبارد تجاههم.
رغم كوني معارضة ثابتة، ورغم ميلي التلقائي لمقاطعة انتخابات لم تتشكل بصياغة قررها الشعب لنفسه بوضوح ومباشرة، إلا ان خيار المقاطعة فشل فشلاً ذريعا وعلى مدى من الزمن. لا يمكن الاستمرار في نفس النهج وتوقع نتائج مختلفة، لذا كان لابد من تغيير النهج، وها نحن، نحبس الأنفاس، وننتظر النتائج.