“جونم”
يذكرنا الجزء الخامس من مسلسل The Handmaid’s Tale بالبداية المرعبة لهذه الدستوبيا القاتمة القابلة جداً للتحقق، حيث تقودنا أحداث هذا الجزء للانتباه إلى مراكز القوى، إلى أن من صنع هذا المجتمع العنيف الشمولي القمعي هم رؤوس علاقاتية ومالية مدببة لا يزال معظمهم، بعد مرور سنوات على تشكيل جلياد، يجلسون بثبات على مقاعدهم، لا يزالون يديرون هذه المنظومة الرهيبة بقبضة حديدية ونفوس سيكوباتية مريضة، ولا يزال أحد أهم هذه الرؤوس هي امرأة، امرأة ساهمت في تحفيز الثورة وفي تشكيل مجتمعها الجديد الذي يستدير بكل شوفينيته اللاحقة ليعذبها ويقهرها وصولاً إلى أن يلفظها تقريباً خارجه، والغريب، أنها لا تزال، إلى حد منتصف الموسم وبعد معاناتها فيه ثم طردها منه، تترجى هي هذا المجتمع وتعمل حثيثاً، كما تعمل كل النساء المؤمنات بقضاياهن، من أجله.
لقد كانت هي امرأة، شخصية سيرينا، التي قادت الثورة بيد من حديد، حتى أن الموسم الأول من المسلسل يبين كيف أن شريكها، لاحقاً زوجها الكوماندور ووترفورد، يلين ويضعف أحياناً أمام الأفعال العنيفة الشائنة التي تطلبتها الثورة، وكيف أن سيرينا كانت هي الأقوى، هي التي احتقرته حين ضعف ودفعته دفعاً حين كان يقف عند أعتاب التنفيذ متردداً. لقد كانت هذه المرأة أحد أهم مراكز القوى التي صنعت مجتمع جلياد، هذا المجتمع الذي التف عليها ليبتلعها لاحقاً كما يبتلع الثعبان الفأر حياً. آمنت سيرينا وعملت حثيثاً على بناء مجتمع جلياد المتطرف في تدينه والذي، حاله حال أي مجتمع يغرق في التدين بأي دين كان، التف مباشرة على النساء ليقمعن ويروضهن ويحجر على كل تحركاتهن ويحولهن إلى أدوات جنس وإنجاب، حيث هن في جلياد إما زوجات للقياديين أو إماء مملوكات لهم، يُغتصبن من قبل هؤلاء الرجال بشكل مستمر ومنتظم لتحقيق الهدف الأسمى لجلياد وهو إنجاب الأطفال.
في منتصف الموسم الخامس، يقول مجلس جلياد الأعلى لسيلينا أن مجتمعهم غير مؤهل وأن بنيته التحتية غير معدة للتعامل مع مثيلاتها من “النساء الخاصات.” هي امرأة قوية وذكية ومختلفة، لا مكان واضح لها أو موقع يتحملها في جلياد المبنية على فكرة استعباد النساء، على فكرة وضعهن في قالب من اثنين، قالب الزوجة التابعة أو قالب الجارية المملوكة، والذين كلاهما لا يتحملانها. وعليه يتم إرسال سيلينا لكندا لتعمل سفيرة هناك، تروج لجلياد كدولة مدنية وتخدمها دبلوماسياً ولكن عن بعد، دون أن تعيش على أرضها غير القادرة على تحمل وطأة قوتها “العقلية الذكورية” وضعفها “الجسدي الأنوثي.” سيلينا تحولت إلى كائن مختلف غريب، كائن بين الذكر والأنثى، كائن يشكل معضلة لجلياد وفي ذات الوقت أحد أهم ثرواتها. ألا تقترب هذه الصور المرعبة لجلياد من حيواتنا البشرية الحقيقية؟
تقول شيرين عبادي المحامية الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل للسلام ومؤلفة كتاب Iran Awakening إن الثورة الإيرانية التي عملت هي بإخلاص من أجل إنجاحها والتي كانت هي، ضمن الحركات الليبرالية واليسارية في إيران، من أقوى المساندين لها، قد انتهت إلى أن أكلتها ولفظتها عظاماً هشة. تقول عبادي إنها شعرت بالتغيير ثاني يوم من استتباب الأمر للثورة ولقائدها آن ذاك، الخميني، وأنها استشعرت النفور والتحييد في عملها وفي الشارع العام بعد أيام معدودة من انتظام الحكومة الجديدة. خسرت عبادي وظيفتها كقاضية فور جلوس الحكومة الدينية على مقاعد الحكم الإيراني، حيث تتذكر أنه تم استدعاءها بعد أيام لمقابلة أحد المسؤولين الكبار لينبهها أحد أتباعه بضرورة تغطية شعرها احتراماً لمقامه. تقول عبادي في كتابها ما معناه: إننا كنا نتكلم عن الثورة والسياسة والمستقبل، وهذا الرجل أمامي يتكلم عن الشّعْر، فعلياً يتكلم عن الشّعْر.
ورغم أن المقارنة غير عادلة والناتج مختلف تماماً، حيث يقترب تكوين مجتمع جلياد من تكوين المجتمع الأفغاني على سبيل المثال أكثر بكثير من الإيراني، وحيث شيرين عبادي هي شخصية حقوقية حاصلة على النوبل للسلام بسبب جهودها اللاحقة الحثيثة والخطرة لمساعدة ضحايا المجتمع الجديد وخصوصاً النساء منه، إلا أن أحداث صنع مجتمع جلياد تذكر إلى حد كبير بأحداث صنع مجتمع إيران الإمامي، هذا المجتمع الذي ساهمت في صنعه العديد من النساء مثل شيرين عبادي واللواتي سرعان ما استدارت عليهن ثورتهن لتأكلهن. نحن النساء نؤمن عميقاً ونعمل حثيثاً ونخلص مطولاً لقضايانا، لمهماتنا الحياتية والمجتمعية، فإذا ما اقتنعنا بقضية أو مبدأ ووضعنا أيادينا في موضوع أو مسعى، لا نتركها حتى نفنى دونها، إلا أننا كثيراً ما نفنى حتى بعد تحققها، لنصبح نحن أول “أضرار الحرب الجانبية” وأرخصها قيمة. وهكذا دفعت النساء الإيرانيات ثمن تحرير إيران من قبضة نظام سابق فاسد ظالم، ولا يزلن يدفعن ثمن محاولات تحرير إيران من قبضة نظام حالي عنيف صارم. النساء دوما هن أول ضحايا القمع وأول المتقدمات للتضحية وأول الأجساد المسجاة في سبيل القضية.
كل مجتمع يحكمه نظام ديني هو مشروع جلياد، وكل نساء مساندات للنظام هن مشاريع سيلينا هذه المرأة المساهمة في صنع النظام والمستفيدة منه والتي سيأكلها ذات هذا النظام في يوم ما أو يحولها لرجل مشوه منقوص، وكل النساء المقاومات هن مشاريع جون، هذه المرأة التي تقاوم بجسدها وأعصابها وروحها وتدفع وعيها وعقلها ثمناً لتحرير نفسها وبقية نساء مجتمعها. أعيننا اليوم على كل “جون”، والتي، ويا للمفارقة، ترجمتها الفضفاضة من الإيرانية إلى العربية هي “حب” أو “حياة” أو “قلب”، تحارب بكل ما تملك، بكل ما تستطيع من قوة إرادة ووعي وأعصاب. دوسيت دارم جونم.