جنتي التي رحلت
ليس في مقال اليوم ما يهم، هو عن قطة شريدة، وقد ارتأيت أن أوضح حتى لا يضيع وقت ثمين في مقال قد يراه البعض فارغاً، مقال أكتبه وفيّ شيء من أمل أن يخفف عني وأخفف فيه عن حمل لا يهم أحداً غيري، لكنني أحتاج أن أكتبه، فمنكم العذر والسموحة.
عند باب بيتي الصغير، دأبت قطة صغيرة على زيارتي ودأبتُ على إطعامها وملاعبتها، أصبحت تألفني وآلفها، فقد عرفتها هريرة صغيرة وعرفتني في كل أحوالي، غاضبة، سعيدة، مستعجلة، ضاحكة، تأتي تتمسح بقدمي فألاعبها على عجل وأغادرها دون أن تأخذ من فكري أكثر من ثانية مداعبتها. في صباح يومي العصيب، أتت هريرتي وهي تعرج وقد تقوس ظهرها بشكل مريع. ماءت وماءت، وتمسحت بي بألم حتى خفتُ أن أربّت على ظهرها المحدودب. لم أكن أعرف أن قطتي ستأخذ جلّ يومي، تلك الصغيرة التي لم أفكر فيها لربما أكثر من عشر دقائق في كل حياتها وحياتي. هرولت إلى داخل البيت وصرخت في ابني البكر، “ساعدني يا حبيبي”، وكأن صغيري شاهد في عيني هرة وأكثر، فتلبس فزعي واستعجالي. أسرع فوضعها في صندوق، عمل اتصالاته ثم طار بها للعيادة البيطرية. أول رسالة وصلتني أنها تحت الأشعة الآن، ثاني رسالة كانت “أنا آسف يا أمي، الأخبار ليست جيدة”، وثالث رسالة كانت “سيجرون لها جراحة، إذا لم تنجح لابد أن نضعها للنوم”. كل الآلام والعذابات، كل الصراعات والإحباطات تمثلت بألم هذه الصغيرة، لابد لي أن أنقذها. فهمنا من الطبيب أنها وُلدت بعيب خلقي وأنها تعرضت الى ركلة ضاعفت المشكلة فأودت بعظامها ووضعتها تحت آلام شديدة. رجوت ابني أن يبقى يحاول، وضعت الفتى تحت ضغط لا يستحقه، ولسبب ما كان يجاريني، وكأنه شعر أنه إذا أنقذ هريرتي فإنه سينقذ جزءاً من نفسي كذلك. وجاء الحكم الأخير، سننيمها نومتها الأخيرة، فلا أمل في علاجها ولا راحة في حياتها. رجوت ابني والطبيب المداوي، لنعطها فرصة، سأحتضنها في صدري، سأحملها أينما أذهب، ولكن لتأخذ فرصتها في الحياة، فقيل لي إنها ستعيش بآلام مبرحة وإن علي أن أودعها.
عبر أسلاك التلفون أعطيت موافقتي وودعتها بحرقة، لا، بشيء أشد، ينفر من ثنايا النفس. كل الظلم والألم، كل قسوة القدر ووحشية الظروف تبدت في معاناة هريرتي وفي مصيرها الأخير. لم أستطع أن أنقذ قطة، ولا حتى قطة. تأخذني العزة بالإثم أحياناً فأعتقد أنني سأغير الدنيا، أو جزءا من منها، أو حتى ثواني من لحظات من يعيشونها، وتأتي هريرتي لتضعني حق قدري، وتذكرني بفداحة عجزي.
في تلك الساعة أسميتها، أطلقت عليها اسم “جنة” لحظة صادقت على رقدتها الأخيرة. قلت أريد أن أسميها حتى لا أنساها، وقلت ستكون جنة علّ اسمها ينصفها، وقلت إنني أحبها وإنني أعتذر لها نيابة عن القدر، وقلت أشياء كثيرة غاضبة، وأشياء أخرى حزينة، ولم يفهم ابني ولم أفصح تماماً لزوجي ولم أجرؤ حتى على الاعتراف لنفسي بمنبع الألم الذي قفزت فيه جنة “فطرطشت” من مائه على وجهي لتحرقني ألف مرة، وتميت روحي ألف مرة، وتفرض نفسها على قلبي وذاكرتي مدى الحياة.
لم أنقذ حتى هريرتي جنة، فهل أملك من أمري وأمر الدنيا وأمر من أروم المساعدة شيئاً؟