ثورة على النفس
إن من يستنكر المقارنات الحالية القائمة لحالات الغليان السياسي في المنطقة العربية إنما هو قريب جداً من «المنظر» لدرجة العجز عن رؤيته كاملاً، أو بعيد جداً عنه لدرجة العجز عن رؤية تفاصيله الإيديولوجية ومسبباته الإنسانية. المقارنة حالة إنسانية طبيعية، وفي أحايين، ضرورية جداً لإثارة الوعي وتحفيز المشاعر والكرامة التي كثيراً ما تنام بفعل تتابع زمن يتعود الطغيان ويستمرئه، والمقارنة ضرورية من حيث إنها ليست «مطابقة» ولكن «مباينة» بين ما «يحدث عندنا» وما «يحدث عندهم»، ومن هنا يمتد التأثير ويتحفز التغيير وإن بأشكال متغايرة.
وهنا لا يمتلك المراقب سوى أن يشهق إعجاباً بالإرادة الإنسانية التي يمكن لها أن تنام نومة أهل الكهف، ثم تبعث من جديد عندما يأكل الجوع إلى الطمأنينة والكرامة معدات النائمين دهراً، فها هم أهل تونس يستيقظون، ضاربين بأكواعهم وهم «يتمططون» من نومتهم الطويلة جيرانهم أهل مصر، مع تساؤلنا لمَ تخطت هذه الأكواع أهل ليبيا، ولكن لكل صحوة ميعاد، وها هو لبنان يضج بالألم الذي هو المحفز الأقوى للاستيقاظ.
ثورة مصر في مقتبل ساعاتها، ولا يبدو إلا أنها في صعود، يتسلقها أهلها نحو كراماتهم ومسؤولياتهم، نحو حقهم في تقرير المصير وفي ممارسة «الرقابة الداخلية»، كما تسميها الباحثة فاطمة المرنيسي، والتي هي «مصدر التمييز والنظام في المجتمع».
أنا ربيبة مدينة الإسكندرية، كبرت على شواطئها، ولعبت في متنزهاتها، وحتى سن العاشرة لم أكن أتحدث سوى باللهجة المصرية التي لاتزال تجد طريقها بين كلماتي بإصرار مثير للحنين، هذا الإصرار هو ما أعرفه عن المصريين، فما إن يغرسوا مخالب قرارهم حتى يمضوا للنهاية، عندها، لا يصبح الثمن موضوعاً، ولا المخاطر حاجزاً، ولا العواقب رادعاً، عندها تنطلق مصرية المصريين، تتكوم وتتصخر وتتعالى كما الهرم الأكبر، فتصبح أكبر من الخوف والموقف بل الزمن نفسه… لا أعتقد أن هذه الثورة ستخمد، وإن هدأت فهي في طور التحول إلى شيء أكبر وأخطر، مثل الجمر تحت الرماد، قد لا تراه وخطورته في أنك لا تراه، يحرق ويدمر وهو راقد تحت الرماد.
ولكن، وبئس لكن هي تلك، يبقى هناك خوف على هذه الصحوات الشبابية الخلابة، فتاريخ الشرق الأوسط يشير إلى أن عمل الشباب دائماً ما يستخدمه القادمون الجدد لإحلال نظام أكثر غطرسة وأبعد طغياناً وأعمق دموية… ثورة العراق أتت بالبعثية، وثورة مصر أنتجت جمهورية قمعية، وثورة إيران استسلمت لأصولية دينية، كلها ثورات بدأت بحلم وانتهت بكابوس، كلها ثورات استبدلت طاغياً بمن هو أطغى منه، يتمدد طغيانه بمعية حماس الشباب ورغبتهم الملحة في التغيير. الخوف اليوم على الثورات الشابة من القادم إليهم حاملاً ما قد لا يستطيعون رده، فعندما يتدخل العنصر الديني للحلول محل أي عنصر آخر شمولي، يصبح التحكم به ومراقبته في غاية الصعوبة والتعقيد، فالحوار سيأخذ بعداً ثيولوجياً، والتخويف الشعبي بعداً سماوياً، ويصبح الانقلاب على هؤلاء، كما سيسوقونه، انقلاباً على الله والدين.
ثوراتنا تحدث في أجواء لم تستتب فيها بعد مبادئ الحرية الحقيقية، ولم تظهر في آفاقها بوادر التنوير الفعلي، فأجواؤنا ترابية بسبب ذلك التسييس المستمر للدين والشراء الفاحش لولاءاته التي تصنع وعاظاً للسلاطين مهمتهم تثبيت الحكم الشمولي، وتغييب الشعب بأفيون الوعد الأخير الذي يرفعهم من الأرض التي يعيشون عليها إلى السماء التي يحلمون بها، فيتعلقون، لاهم على الأرض ولا هم في السماء… لا نريد لإخوتنا في تونس ومصر ولبنان أن يتعلقوا، فقد حان وقت تثبيت الأقدام على الأرض، تلك ثوراتكم، صنع أياديكم، فلا تتخلوا عنها ولا تسلموها لمن يأكلها حارة ويترك لكم الفتات.
ولمبتئسينا المحليين أقول: المقارنة ستستمر بدافع من الطبيعة الإنسانية أولاً والألم المتفاعل ثانياً، وإن اختلف نوعاً وقدراً وعلاجاً، فبكل تأكيد لا يمكننا تجاهل الألم الذي استشرى في الجسد الكويتي أخيراً وإن كان من الضروري الاحتفاظ برؤية واضحة لنوعية الألم ومصادره… نحن بلد دستوري وديمقراطي، ولكن لدينا من يعذًب في السجون ومن يُضرَب في الشارع ومن يترك حراً طليقاً بعد أن يضرِب ويعذِب، هنا، من هذه الجزئية تتأتى المقارنة، ومن هذا المنطلق نحتاج إلى ثورة… ليست مشكلتنا في التغيير، فهذا تحصلنا عليه منذ زمن، ولكن مشكلتنا في التفعيل، وهذا ما ينتظرنا، ثورة سلمية شخصية يبدأ بها كل منا مع نفسه، نغذي رقابتنا الداخلية، نحترم قوانيننا وندفع بتفعيلها، نحترم الحريات ونتدرب على تقبلها.
نعم، نحتاج لثورة على طغيان أنفسنا قبل حكومتنا، وعندما نتغير فإنها ستتغير، وعندما نغضب فإنها ستتحرك وستسمعنا ونحن نقول لا… مهمتنا سهلة بالمقارنة، فقط نحتاج أن نبدأ.