ناشطات في لبنان يرتدين فساتين عرس للاعتراض على قوانين مجحفة بحق النساء
ثورة الفساتين القصيرة
لطالما كان ملبس المرأة قضية سياسية، في العالم كله ذات يوم، وفي عالمنا العربي كل يوم. بكل تأكيد لا يزال مظهر المرأة موقفا سياسيا في كل مكان في العالم، يصرح من خلاله المجتمع بمدى حداثته أو انغلاقه أو محافظته؛ إلا أن مظهر المرأة، في عالمنا العربي، ليس فقط موقفا سياسيا، هو إعلان حرب، وهو مظاهرة أيديولوجية، ومصدر أساسي للتقييم مجتمعيا وأيديولوجيا وسياسيا وأخلاقيا وأحيانا حتى قانونيا، منذ أن تم التفريق بين الحرة والأمة في الملبس، امتدادا إلى تبرير انتهاك حقوق المرأة الإنسانية والقانونية اليوم، تلك الحقوق المعترف بها حول العالم أجمع، بسبب من هذا الملبس.
المتحررة مظهرا هي من تستدعي انتهاك أمنها وسلامتها؛ هي من تحمل وزر تلطيخ سمعة عائلتها؛ هي من تهدد “فحولة” الذكور (لا الرجال) المحيطين بها؛ على جسدها يكتب المجتمع أيديولوجيته، وعلى جلدها يشم تقاليده وأفكاره وشكله الذي يود إظهاره لغيره من المجتمعات.
إلى متى نقاوم هذه الفكرة ولأي غرض؟ ستبقى أجسادنا وأغطيتها قضية مجتمعاتنا الأولى، وسيبقى ما تغطى من الجسد مثيرا للرغبة وسيبقى ما انكشف منه مثيرا للحمية.
سيحاكمنا المجتمع بسبب ملبسنا كما حاكم من هن قبلنا مهما فعلنا وأنا تغطينا أو كشفنا. وجودنا الأنثوي بأكمله إشكالي، بمظهرنا ومخبرنا وتاريخ عذاباتنا وسياسية أجسادنا، هذه التي تحمل على عظامها وشحمها ولحمها كل قوانين وتقاليد وعادات وسمعة وشرف وعيب وحرام المجتمع.
ستبقى أجسادنا ساحات اقتتال وأغطيتها أعلام حرب، والمعارك الوحيدة التي يدخلها المعظم من “ذكور” الشرق الأوسط بكل غضباتهم وحمياتهم ليدافعوا من خلالها عن هوياتهم الضائعة وكراماتهم المهدورة.
ها هي رانيا يوسف بفستانها المكشوف تجمع شيوخ الأزهر، وتقيم جلسات المحاكم، وتستنفر الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، وتستثير الغضب والغيرة والاشمئزاز والحمية العربية و”لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم”. وبسبب فستان رانيا ستراق الدماء لتغسل السمعة العربية والشرف الشرق أوسطي الأصيل.
ذكرتنا رانيا، جزاها الله كل خير، بالحمية والغضبة العربية؛ تلك المشاعر التي خلناها ماتت. تلك المشاعر التي لا تظهر ولا نتذكرها إلا إذا انتشرت صورة لممثلة بلباس البحر كما مع نيللي كريم، أو ظهر خبر خلع للنقاب كما مع حلا شيحة، أو تم تداول تسجيلات لفستان جريء كما مع رانيا يوسف.
ولأن محاولة مقاومة هذه الغيرة العربية، التي لا تظهر إلا تجاه الأجساد وأغطيتها، هي محاولات فاشلة، حيث سيبقى أكثر ما يستفز “الذكر” العربي هو فستان وسيقان، فالأبدى والأكثر حكمة أن نستغل هذه الغيرة ونستخدم طاقاتها، لا أن نقاومها ونسفه أسبابها. لدينا كارثة ولا نستطيع جلب انتباه عالمنا لها؟ نرسل امرأة جميلة بفستان “محزق” لتأخذ صورة في الموقع، لربما تستحي الضمائر فتنتبه للموت والدماء المشكلان لخلفية فستان الجميلة.
لربما يكفي أن نشوح ببنطال ضيق أو قميص شفاف أمام مناطق نكباتنا لنتحصل على شيء من الاهتمام ولنستشعر شيئا من الغضب والغيرة حتى لو كانت المشاعر موجهة للبنطال والقميص، فشيء من المشاعر أفضل من لا شيء.
ماذا لو اجتمعنا كلنا، نساء هذا الشرق الأوسط المسكين على حدود اليمن أو في قلب سوريا أو على ضفاف رافدي العراق، فظهرنا كلنا بفساتين بيضاء قصيرة، بياضها يذكر “الذكور” بسواد الأفعال، وقصرها يذكرهم بطول بالهم على الظلم والقهر؛ ماذا سيحدث؟ لن يستطيعوا دفننا جميعا أحياء، لن تستطيع ألسنتهم أن تلوك الفساتين والأجساد وبينهم نساء تخصهم، سيكونون كلهم في الهم ذكورا شرق أوسطيين؛ كلهم في الفضيحة شرف مهدور؛ ستجمعهم مصيبتنا، وستوحد اتجاه نظراتهم فساتيننا، ولربما، فقط ربما، ينظرون خلفنا إلى شلالات دماء العراق، وإلى أنهار نازحي سوريا، وإلى بحار التوابيت القادمة من اليمن يرقد داخلها صغار قتلهم وباء انتهى من العالم المتحضر منذ زمن.
تعالوا نفكر يا سيدات هذا العالم العليل؛ لست بالطبع أدعو للقبول بالتحرر في الملبس، فهذا قرار أخلاقي فردي، كل واحدة منا لها أن تقيسه بمقياسها الشخصي، وهذا هو لب المشكلة.
في عالمنا هذا، لا يريد الذكور أن يكون ملبسنا قرارا شخصيا، حياتنا كلها ليست شخصية، هي مشاع لذكور العائلة والمجتمع، ولذا، وبما أن الأجساد وما يغطيها ستبقى دائما حلبة صراع سياسي ـ اجتماعي ـ ديني، ولأننا وحتى اليوم لا نستطيع أن نهزمهم، فليكن أن ننضم إليهم، لنستغل فرصة هذه الحميات والثورات العربية التي تثيرها الفساتين والتنانير والبنطلونات بما أن أجساد الصغار وأنهار الدماء ليس لها ذات التأثير.
تعالوا جميعنا نلبس الفساتين البيضاء القصيرة فنستجلب أنظارا سهت منذ زمن، ونوقظ حميات نامت وننعش غيرات أرقدتها غيبوبات طويلة، علهم يرون أبعد من جلودنا التي تغطي عظامنا وجماجمنا، علهم يخترقون سخافة الشهوات التي تحركهم ونخواتهم، فيرون هناك، بعيدا، هذا الطفل المدفون أسفل كومة الصخور والأتربة. تعالوا نجرب، ماذا سنخسر أكثر مما خسرنا؟