ثقوب سوداء
سأحكي لكم قصة، اقتباساً وترجمة، هي قصة منشورة في كتاب Living With Art لمؤلفه مارك جيتيلين على صفحتي 222 و223. إليكم ما حدث:
أخذ الفنان المصور روبرت ميبلثورب أميركا بعاصفة خلال السبعينيات من القرن الماضي عندما عرض مجموعة من صوره عنونها باسم X Portfolio والتي كانت تستعرض مشاهد سادية؛ مما أثار حفيظة المجتمع الأميركي المحافظ وأحدث ضجة كبيرة حول موضوع حرية الرأي والحرية الفنية التعبيرية. توفي ميبلثورب في 1989 متأثراً بمرض الأيدز، ليتم بعدها تنسيق معرض بأعماله كان ينتوي له أن يطوف ولايات أميركا المختلفة، ومن هذه اللحظة اتخذ الحوار حول مفاهيم الرقابة والحرية منحنى مختلفا وحادا، حيث أصبح الساسة والحكومة طرفين فيه.
بدأ هذا المنحنى مع محاولة عرض أعمال ميبلثورب في معرض كوركوران الفني بواشنطن في صيف 1989، ولكن قبل الافتتاح أثار السيناتور المحافظ جيسي هيلمز ضجة حول حقيقة أن جزءاً من تمويل المعرض يأتي من أموال دافعي الضرائب الذين لربما لا يوافقون على فحوى أعماله الفنية، حيث حاول السيناتور إقناع الكونغرس بإيقاف تمويل هذا المعرض بناءً على اختلافه هو شخصياً مع مادته وطبيعته. هذا التدخل السياسي في التقييم الفني والمحاولة الشخصية للحجر على حرية التعبير أثارا زوبعة من النقاشات التي تم افتتاح، إبان ثورانها، معرض ميبلثورب في معرض مشروع واشنطن الفني Washington Project for the Arts، حيث لاقى ترحيباً جماهيرياً واسعاً.
بعدها انتقل المعرض إلى كونتيكيت ثم إلى كاليفورنيا، حيث تم العرض بسلاسة دون مشاكل تذكر، بعدها انتقل المعرض إلى ولاية سنسيناتي المحافظة متسبباً في انفجار حاد في الحوار الدائر، ولم يعد الموضوع مجرد اعتراض على تمويل شعبي ضرائبي، أصبح الاعتراض الآن على المادة الفنية المقدمة بحد ذاتها، وأصبح السؤال هو: هل يسمح لمثل هذه المادة أن تعرض أصلاً أو أنه يجب منعها أياً كان مصدر تمويلها؟ في يوم افتتاح المعرض، أغلقت الشرطة مركز الفنون المعاصرة محل إقامة المعرض، وصورت محتواه كدليل على وقوع المخالفة. بعدها قامت هيئة محلفين بتوجيه اتهام للمعرض ومديره بعرض صور مخلة بالآداب، وفي حال الإدانة كان سيحكم على هذا المدير بما قد يصل إلى سنة سجن.
بعد ستة أشهر من رفع القضية، حكمت هيئة محلفين مكونة من مواطنين عاديين في الولاية ببراءة المعرض ومديره، كان هؤلاء المواطنون من غير الخبراء في مجال الفن، بل إن أغلبهم لم يزر متحفاً في حياته، وليس له أي اهتمام بالفن، إلا أن ما دفعهم لإصدار هذا القرار هو اقتداؤهم بآراء الخبراء الفنيين الذين شهدوا أن أعمال ميبلثورب تدخل في قائمة الإبداع والتعبير الفنيين على الرغم من مواضيعها الشائكة.
يقول جيتيلين مؤلف الكتاب الذي أقتبس منه قصتي في تعريف الرقابة “هي مراقبة فرد أو مجموعة لفرد أو مجموعة أخرى”. هذا التعريف يعتبر أن فردا أو مجموعة (أ) لديها السلطة للتحكم في تعبير فرد أو مجموعة (ب). عادة، تمارس هذه السلطة لأغراض سياسية، أو دينية، أو أخلاقية. بتعبير آخر “يستطيع (أ) أن يمنع (ب) من صنع أو عرض عمل يتعارض مع الرأي السياسي، الديني أو الأخلاقي للفرد (أ)”. في إحدى القضايا التاريخية في أميركا حكم قاضي المحكمة العليا أوليفر وينديل هولمز بأنه ليس لأحد الحق بأن يصرخ كذباً “حريق” في مسرح مزدحم، وعليه فإن حرية التعبير ليست مطلقة، بل لها حدود، كما أضافت المحكمة أنه من الممكن منع التعبير الفاحش، والكتابة الفاحشة، والصورة الفاحشة، إلا أن المشكلة، كما يجدها جيتيلين، تبقى في تعريف ما هو فاحش.
في حكم محكمة آخر في سنة 1973 تم تعريف ما هو فاحش على أنه ما قد يجده الشخص العادي بتطبيقه للمقاييس المجتمعية المعاصرة فاحشاً، إضافة إلى افتقاد العمل الفني ككل لقيمة حقيقية أدبية، وفنية، وسياسية أو علمية، يؤكد جيتيلين أن هذا الحكم يستجلب المزيد من الأسئلة عوضاً عن الأجوبة، فمن الشخص العادي؟ وفي أي مجتمع؟ ومن له أن يقرر قيمة العمل الفني؟ هذه الحوارات والأسئلة في سبعينيات القرن الماضي أوصلت المجتمع الأميركي إلى درجات متقدمة من الاحترام لحرية الرأي والتعبير، خصوصاً الفني منها، وكان لحكم المحكمة التنويري في قضية ميبلثورب أكبر الأثر في غرس قيمة الحرية عميقاً في الوعي الأميركي حتى إن اختلف الشعب أو حتى احتقر المادة المقروءة، أو المسموعة أو المرئية.
لا آمل أن يصل التقديس لحرية الرأي في زمننا هذا وعلى بقعتنا الجغرافية هذه لمثل هذه الدرجة المستحقة والمتمثلة بحكم البراءة الذي حصل عليه مدير المعرض في قضية ميبلثورب، فالفجوة الزمانية والمكانية كبيرة تحتاج لما يشبه الثقوب السوداء الكونية لنقفز من خلالها من عالم لآخر، ولكنني آمل أن يدور حوار ما مثل هذا في زمننا، وبأنانية أكبر، في مدى عمري الشخصي. بودي أن أستمع إلى حوار صادق جاد جريء، حوار لا يجمل ولا يغطي، حوار يدور فوق الطاولة لا تحتها، لا يختبئ تحت عادات وتقاليد، لا يرتعد أمام أحكام الناس وتصنيفاتهم، حوار حر مثل موضوعه الذي يدور حول الحرية، فقط هذا ما أتمنى، ولذا سردت هذه القصة.