تكليف
انتشرت في السنوات الأخيرة، وتحديداً في المجتمع الشيعي، ظاهرة احتفالية «تكليف» الفتيات، وهي احتفالية تقام للصغيرة حين تبلغ التسع سنوات من عمرها، لكي يعلن من خلالها عن لبسها الحجاب. عادة ما تكون هذه احتفاليات بهيجة، على ما أسمع، يتم من خلالها إعلان وصول الصغيرة إلى سن «التكليف» ووجوب التغطية الذي يكون مضمون سببه تطورها الجسدي والعمري. أخذتني هذه الظاهرة بشكل مباشر حين وَصَلت إلى محيط عائلتي الكبيرة، حين بدأ بعض من أمهات العائلة اللواتي عشن حياتهن زمناً بكل حرية وتحجبن في سن كبيرة نسبياً بـ «تكليف» صغيراتهن واتخاذ قرار الحجاب لهن.
مع اقتراب اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، حضرتني هذه الظاهرة بقوة وبصورة تنازعتني فيها نفسي. فمن جهة، إنه من المفهوم ضمناً أن قرارات الأمهات والآباء الخاصة بأبنائهم لا تتأتى إلا عن قناعة تامة منهم بصحة هذه القرارات وتحقق مصلحة أبنائهم من خلالها. لا شك لدي في أن الأم صاحبة قرار التكليف الشيعي أو التحجيب السني تعتقد بأنها تصون ابنتها دنيوياً وتحقق لها الخير أخروياً دون أن تقصد حجب حرية ابنتها أو برمجتها قسراً. وفي كل الأحوال، كلنا في النهاية انعكاس لآراء أهلنا ومجتمعاتنا بدرجة أو بأخرى، وفي النهاية أيضاً كلنا نكبر على برمجات اجتماعية، سواء باتجاه أكثر تحرراً أو أكثر محافظة، وكلنا إلى حد كبير نتاج هذه البرمجات والاختيارات التي يصنعها الأبوان في بداية حياتنا، بل والتي صنعتها أجيال ماضية شكلت المجتمع وأفكاره التي «تسربت» وصولاً إلينا والتي غالباً ما سنوصل الجزء الأكبر منها إلى أبنائنا من بعدنا. فإلى أي مدى يعدّ ادعاء حرية الرأي والاختيار لأي بشر منا أمراً صحيحاً؟ هذا، ولا بد من التأكيد على أحقية الآباء والأمهات في تربية أبنائهم بالطريقة التي يعتقدونها أخلاقية، بل هو واجبهم جبل هؤلاء الأبناء على الحق والخير والمبادئ الصحيحة، وهي كلها كلمات نسبية، نختلف حولها بصفتنا بشراً دون أدنى أمل في يوم للوصول إلى رؤية موحدة حولها.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من نسبية معظم المبادئ والمثل البشرية، إلا أن هناك قيماً إنسانية حاول أغلبية- وليس كل البشر- التوصل لاتفاق حولها، سواء من خلال المعاهدات الإنسانية أو الاتفاقيات الدولية أو حتى العرف الإنساني العام. الحرية، مثلاً، هي أثمن ما يمكن أن يناله إنسان، وهي مادة رئيسية لكل الاتفاقيات والمعاهدات العالمية، إلا أنها أقل ما يصل للإناث على سطح هذه الأرض. فحرية الأنثى، من بداية حياتها، ينظر لها على أنها عامل خطر يهدد سلامتها، يهدد شرفها، بل ويهدد المجتمع بأكمله، لذا توضع القوانين والحدود والخطوط الحمراء كلها حول الأنثى مجتمعياً ودينياً لتكبيلها، وبالتالي سلبها أهم حقوقها الطبيعية الإنسانية. ليس أدل على ذلك من الاعتقاد بوجوب اتخاذ قرارات مصيرية طويلة الأمد نيابة عن الأنثى ومنذ سن صغيرة، فمن قرار تغطيتها في هذه السن إلى قرارات أشد خطورة كتزويجها، كثيراً ما ترسم حياة هذه الأنثى منذ بداياتها وبشكل كامل ودون إرادة حقيقية أو تدخل منها.
إلا أن موضوع فرض الحجاب في سن صغيرة تحديداً يخرج عن إطار انتهاك الحرية إلى صورة كاملة حزينة لانتهاك الطفولة والبراءة، فالرسالة المرسلة خلف «تكليف» ذات التاسعة هي أنها أصبحت أنثى متكاملة يمكن أن تثير الرغبة، ما يستوجب تغطيتها. وفي النهاية، إن فكرة التغطية تستند إلى مفهوم جسدي غرائزي بحت يدور حول شهوة الرجل وإغراء المرأة، وهو مفهوم يفترض أنه يخص «الكبار» الذين لهم أن يتجادلوا حوله دون أن تكون ذات التاسعة طرفاً فيه. أليس عنفاً لفظياً ونفسياً أن تكون الطفلة ذات التاسعة-وهي سن غير قانونية للزواج أصلاً حتى في معظم الدول العربية الإسلامية- محور هذا الحديث؟ أليس تهديداً أمنياً ونفسياً للصغيرة شرح أسباب تكليفها بالحجاب وعواقب عدم التزامها به؟ أليس التهديد بالحرق بالنار عموماً، وتحت أي أسباب وللدفع إلى أي توجه، هو أحد أخطر صور تعنيف الطفل؟ كيف نحمي الأنثى، طفلةً وامرأةً، من العنف وتراثنا الاجتماعي والديني مبنيان على مفاهيم تعنيفية وتهديدية لروحها وجسدها؟ كيف نحررها وجسدها ملك للرجال على مدى مراحل حياتها؟ كيف نحمي طفولتها ونضمن حريتها وهذا تكليفها من أبويها يبدأ في التاسعة، لتتحول منذ هذه السن الصغيرة إلى امرأة بالغة، مهامها كبيرة والخطاب الموجه لها قاس مخيف؟
الموضوع ليس بسيطاً بكل تأكيد، إنما ينطوي على حقوق للأبوين، وحرية تفكير واعتقاد، وواجب التوجيه والحماية للأطفال، ولكن ألا يجب أن تكون قاعدة كل هذه المبادئ هي في الأساس ضمانة سلامة الطفلة النفسية والجسدية وحماية حقوقها وحريتها؟ هل تضمن هذه الممارسة والخطاب المصاحب لها هذه السلامة والحماية؟ في هذا اليوم، اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، تعدّ هذه القضايا عميقة الأثر الإنساني، والتي تستوجب التفكير والتحرك. هو واجبنا، لربما النساء قبل الرجال، أن ننقذ الصغيرات القادمات، وأن نمهد لهن طريقاً يحمي طفولتهن وحقوقهن وحرياتهن، وأن ننقذهن من عالم يراهُنّ بالمجمل أدوات متعة ومصادر إغواء، وأن نحارب حتى أنفسنا والمعتقدات الراسخة في عقولنا والرؤى المنحوتة في مجتمعاتنا لنحقق لهن حياة أفضل، وأكثر أمناً وحرية. في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة تتجلى أهم واجبتنا في مهمة القضاء على الأفكار التي كبلت الصغيرات طوال تاريخ البشرية وسلبتهن حرياتهن وعنفت أجسادهن وأرواحهن، هذا هو الهدف الأسمى الذي من أجله يجب أن نتخطى كل الحواجز، حتى حواجز المعتقدات الراسخة في قلوبنا.