تحيا ميديا
كنت أشاهد قبل أيام فيلماً وثائقياً يدور حول مقتل الفنانة سعاد حسني، الذي ألح عليّ بفكرة طوال فترة عرضه بعيدة تماماً عن القصص المخابراتية التحقيقية، والتي كانت ولا تزال تحوز على انتباه الناس وشغفهم. إن موضوع تجنيدات الفنانات والفنانين مخابراتياً هو موضوع غاية في الأهمية والخطورة، ويستحق التحقيق التاريخي والتحقق الحالي، حيث لا يزال أسلوب الحرب الباردة هذا مستمراً ليومنا في عالمنا العربي، وإن بصور مختلفة بعض الشيء. اليوم ما يتم هو محاولات، تنجح كثيراً وقد لا تنجح أحياناً، لشراء رأي الفنانين والأدباء والنقاد ومشاهير «السوشال ميديا» بدلاً من خدماتهم التجسسية، ليتم تجنيد مواقعهم الاجتماعية وأعمالهم الفنية والأدبية وأصواتهم المشهورة وأشكالهم الحسنة لتحسين صور الأنظمة القمعية الشمولية، وهذا أسلوب أخطر وموضوع آخر لمقال آخر. أما ما قتل سعاد حسني فيبدو لي أنه أعمق بكثير وأسبق بكثير للأحداث الغامضة الكثيرة في أيام حياتها الأخيرة.
لربما بدأ الموت البطيء لسعاد حسني منذ أن بدأت تكبر في العمر، وهذا لعمري «تصرف بيولوجي» محظور على النساء، فما البال بالشهيرات الحسناوات منهن؟ توصم النساء حين تتقدم إحداهن بالعمر، تتهم في الواقع بأنها تكبر وتشيخ، وكأن الموضوع اختياري ورهن الإرادة، وكأن التقدم في العمر يحدث لهن وحدهن دون أصناف وأجناس الناس الأخرى. ونعم، هناك أصناف وأجناس تتعدى التقسيم الذكوري الأنوثي. تُعايَر النساء بالتقدم بالعمر أياً كان الموضوع محل النقاش؛ ففي تجربتي الشخصية مثلاً، وحين أطرح أي موضوع أو رأي من النوع الذي لا يداهن محافَظة وتقليدية الرأي العام، سرعان ما تتوارد الردود من نوع «أسكتوا هذه العجوز» و»عيب على من هن في سنك»، وغيرها من التشكيلات الجُملية التي تحمل في طياتها ليس مجرد الغباء الفكري لربط فكرة ما بعمر صاحبها، ولكن كذلك التمييز الأحمق ضد النساء على أساس سنيّ أعمارهن، وكأن تقدمهن في العمر، هن دون غيرهن، يحظر عليهن أفكاراً ما أو يعيب عليهن التصريح بها. ويأتي هذا النقد الغبي محملاً بمشاعر الانتصار بكشف مستور ما، وكأن «الناقد»، إذا صحت تسميته كذلك، قد كشف سر هذه المرأة وأفصح عن «مخبوء» تقدمها في العمر، هذا على الرغم من أنه في تجربتي الشخصية مرة أخرى، أضع تاريخ ميلادي كاملاً باليوم والشهر والسنة على مواقع «السوشال ميديا».
مطالبات نحن النساء بألا نتقدم في العمر، شيء ما يُنتقص من إنسانيتنا حين نفعل، لنتحول إلى مادة للسخرية بسنيّ عمرنا التي تتحول إلى ممسك علينا. لا أنسى أبداً تلك الدعاية القديمة لهاتف محمول، الذي يظهر في بدايته رجل وامرأته كبيرين في العمر، لتذكِّر الدعاية الرجل بضرورة تجديد شبابه المرتبط كذلك بتغيير «هاتفه»، ليظهر بعدها بثوان مشهد للرجل ذاته وقد تعلقت في يده عروس جديدة صغيرة كناية عن «الجهاز» الجديد. «لا تكبروا الموضوع، مجرد دعابة»، أتذكر قول إحداهن في مفارقة غريبة، إلا أن لا شيء من دقيقة هذا الإعلان السمج بدا لي دعابياً خفيف الظل، بل هي دعاية وقحة نكأت جرح ذاكرتي لنساء في محيطي ألقين على شواطئ التقاعد المبكر من الزواج لأنهن كبرن في العمر، والشرع حلل أربعاً.
نحن مطالبات ألا نكبر رغم أننا مجرد بشر، وليس أي بشر، نحن بشر مرتفع الهورمونية تمر أجساده المسكينة بمراحل مضعضِعة عدة، مراحل محملة بالتغييرات والشد والجذب والضغوط البيولوجية والأحداث الفسيولوجية والتي نبقى، لأسباب عدة، نقاومها ونتصارع معها لتنتهي بنا لفشل محقق، لنموت أحياناً حتى ونحن حيّات نرزق. نهرم نحن بكل تأكيد بشكل أسرع و»أوضح» من الرجال، ذلك لأننا نؤدي أدواراً أعمق وأصعب بسبب من قرار الطبيعة أن «تكرمنا» في أجسادنا. اللهم لا اعتراض، ولكن يبقى أن لا خيار لنا في ذلك، لا دافع لمعايرتنا، ويفترض ألا يكون هناك محفز لكل الضغوط التي نضع أجسامنا وأرواحنا تحتها لنبقى فَتِيّات عناداً مع زمن لا ينهزم أبداً.
قبل أيام ظهرت بروك شيلدز الخلابة في فيديو قصير باكية بصدق وحرقة إبان حديثها عن توديع صغيرتها الذاهبة لاستكمال دراستها الجامعية بعيداً عنها. بدت شيلدز رائعة وصادقة وجميلة فعلياً، وليس فقط مجازياً، وهي تتحدث عن آلام البعد وتسأل الآخرين أن يشاركوها إذا كانوا يمرون بذات تجربتها، لتختم بملاحظة لطيفة حول انتباهها لضرورة صبغ جذور شعرها الذي امتلأ بالبياض. حزرتم ردود الفعل بكل تأكيد، ليأتي الفيديو معنوناً بالعربية «الوحيدة التي يحق لها أن تقول ليت الشباب يعود يوماً»؛ ذلك أن جمالها الصارخ صغيرة تقاطع مع الزمن ليتغير إلى جمال «كبير»، وهذا غير مقبول، التغيير للنساء غير مقبول وهو موضع اتهام ودافع للتغير، لتغييرهن هن بحد ذاتهن.
لقد قالتها نساء المدينة لميديا منذ القرن الرابع قبل الميلاد، أن هذه هي الحياة، نحن نكبر ونهرم ليبحث الرجال عن الأصغر والأجمل، هذا هو الواقع الذي لا بد لنا أن نقبله. ميديا لم تقبله؛ لتقوم، في عارض رفضها لهذا الواقع المريض، بسلب جايسن، زوجها اليوناني الوسيم النافذ، أعز ما يملك: ولديه. ميديا هي المرأة الوحيدة التي هزمت الزمن، فَخَلِدَت بإراقة دماء ولديها من أجل نساء العالم أجمع، من أجل قضية المرأة في كل زمان ومكان، كما تُظهرها النصوص التجديدية الحديثة للمسرحية. ميديا لا تزال إلى اليوم فتية وجميلة وقوية وخالدة، امرأة أراقت الكثير من الدماء لتتجنب مصير سعاد حسني، فلا تموت موتة وحدة وخذلان. حين قتلت ميديا ولديها، قتلت ذكورية أنهكتها وخانتها. نحتاج أن نفكر مطولاً في الفكرة وإمكانية تحقيقها، طبعاً بلا إراقة دماء.