تحت السجادة
قرأت مرة تلك النظرية الغريبة عن علاقة التحديد الجغرافي الأرضي شمالاً وجنوباً بعقول الناس ونفسياتهم بل ومصائرهم. ما الذي جعل العلماء يحددون المتعارف عليه حالياً شمالاً على أنه في الواقع كذلك؟ وما الذي عرف الجنوب وحدده؟ فالواقع العلمي يقول إن الكرة الأرضية هي كذلك، كرة، تطفو هائمة في فضاء لا متناه مضبب الملامح ليس له رأس من قدمين، فكيف تقسمت هذه الكرة إلى «فوق وتحت» وعلى أي أساس أصبحت إفريقيا جنوبية وأوروبا شمالية؟ ماذا لو كنا نحن في الشمال وأوروبا وأميركا الشمالية حالياً في الجنوب؟ هل كانت ستنعكس المصائر وتنقلب الأحوال؟
أعتقد جازمة أن هناك علاقة وثيقة بين وضعنا الأرضي المقلوب والغطرسة المريعة لأنظمتنا وحكوماتنا. «فانقلابنا» المستمر عبر الزمن لابد أنه أفرغ كل دمائنا في رؤوسنا حتى شلت الشعوب وتوحشت الأنظمة وتبلدت الأحاسيس وتوقفت الأطراف. فبالله كيف لا تسقط هذه الأنظمة وكيف لا تستقيل هذه الحكومات؟ لست هنا في عارض البحث السياسي النقدي عن الأسباب، شبعنا «تدخل خارجي» وسياسات أميركا كأسباب للغطرسة والدموية، لابد أن هناك أسباباً أبعد أو، في الواقع، أقرب مما نعتقد، فإما أن هناك قوى ما فوق طبيعية قد أنزلت اللعنات بالجنوب يوم ولادته، وإما أن هناك خللاً حقيقياً في العقل الجنوبي الشرق أوسطي تسبب فيه الموقع الجغرافي والتاريخ الدموي الطويل المتمحور حول ولادات متعاقبة لحضارات وأديان مختلفة كلها تجمعت ثم تفرعت من هذا الموقع العجيب.
فتعاملنا مع الأحداث من حولنا لا يزال مشبع بسيريالية «حداثية» تجاوزها العالم «ما بعد الحداثي»، حيث لانزال نقبل بالخديعة ونحن نعلم تماماً ماهيتها، نتداول التصريحات ونحن ندرك ما وراءها، نؤيد مواقف ونصنع التبريرات ونحن، في أعماقنا، نعلم تماماً بنفاقها.
ثم ننتظر، كثيراً ما ننتظر، تذكرني رحلة انتظارنا القاتمة برائعة جاو زينج جيان الدرامية، وهو المسرحي الصيني الحائز جائزة «نوبل» للآداب سنة 2000، وعنوانها «موقف الباص»، حيث يتجمع عدد من الأشخاص عند موقف الباص الذي لا يأتي، يتداولون حوارات غريبة، يتعاركون ثم يحكون عن حيواتهم، و»الباص» يأتي ولا يتوقف من أجلهم، حتى تمر سنة كاملة وهم في موقفهم ذاته غير مدركين حتى لمرور الزمن.
وبالرغم من حراك «الربيع العربي» الأخير فإن السيريالية والجمود لا يفارقان شعور المتفرج على المشهد. فبعد حراك رائع في تونس ومصر، يأتي «جمود» الموقف في ليبيا وسورية واليمن، مما يستجدي التساؤل، لم لا تسقط هذه الحكومات؟ كيف تثبتت إلى الحد الذي أصبح معه اقتلاعها تحدياً للملايين التي صنعتها؟ كيف نقف موقف المتفرج من جيران البحرين، يحكمون بالسجن مدى الحياة، يقصون عن الحياة العامة، تتهدم معيشات وتتهدل أرواح، ونحن الأعلم بالإقصاء والقمع الذي كان ولايزال، ونبرر، ونقنع أنفسنا بأن أصولهم الإيرانية هي اللعنة الأبدية التي تستوجب السحق؟ كيف لبعضنا أن يلقب بشار الأسد بالبطل المقاوم، نصير «حزب الله»، قامع ثورة «السلف والإخوان»، وكأن طائفتهم تجعل منهم «صيداً حلالاً»، زوائد هم تكنسهم مقشة الأسد تحت سجادة سورية العلوية كما يكنس النظام البحريني شيعته تحت السجادة السنّية؟ توهمنا أن الزمن زمن النظافة الحقيقية، فاذا بنا لا نزال نكنس البشر ونكومهم صرعى تحت سجادتنا الدموية.
حتى الكويت فيها سجادة، تصريحات مسؤولينا تكنس «غير المرغوب» تحتها، فها هم «البدون» يتكومون تحت السجادة بتصريح الوزيرعلي الراشد بعدم جواز تعيين البدون في الجهات الحكومية، إلا باستثناءات تعجيزية وبطلب من الجهات الحكومية نفسها. نكنس نحن فضائحنا كل يوم، فلا رد جاء حول حادثة الطعن في الجامعة والتي ذكرتها تفصيلاً في مقال 4 يوليو بعنوان «قبل أن نغرق» ليبقى الجاني حراً طليقاً والمجني عليهم مكبلين بجراح الجسد والنفس، ولا تبرير لدفع وزير التربية بالآلاف من الطلبة على مقاعد في الجامعة غير موجودة (المقاعد) أصلاً، والرياضة «برمتها» تم كنسها تحت السجادة، وحكوماتنا المتعاقبة سنة بعد سنة لا تتكبد عناء حتى تغيير السجادة المغبرة، يتغير وجه ويأتي آخر، والسجادة ذاتها، حتى اعتدنا الكنس تماماً، بل وأصبحنا نساهم فيه.
تورمت سجادتنا من كثر ما كومنا تحتها، فمتى نواجه أنفسنا، نعترف بعنصرياتنا، ونتعامل مع مشاكلنا بدل كنسها؟ متى يصل «الباص» ويقف لنصعد ونلحق بالركب؟ متى «تدور الدوائر» فنصعد شمالاً حيث هواء الحرية والكرامة الإنسانية؟