بين بطرسنا وبطرسهم
تسرني صديقتي دائما حول استيائها تجاه كثرة ما تسمع من نقد للدين ومن التحليلات الجديدة حول فحواه ونصوصه. “لقد أصبحوا يشككوننا في أرسخ القيم التي نؤمن بها. ما عاد هناك مسألة في الدين إلا وتناولوها بالتحليل والتشكك، أليس هناك شيء صحيح وثابت؟” أعلنت هي في جلسة جماعية على إثر نقاش حول ندوة علمية تبحث في تاريخ اسم قبيلة قريش، وكذلك فيديو يبحث في تاريخ مدينة مكة الذي يبدو استشكاليا أحيانا. سألتها إن كانت قرأت في الموضوع أو اطلعت على المادة التاريخية الخاصة به فأعلنت بشيء من الغضب أن “اطلعت بعض الشيء، ولا أريد أن أطلع أكثر، أنا أؤمن بما أؤمن ولن أعطي للغط الدائر فرصة ليؤذيني”.
صديقتي ومن هم من جيلي ومن الأجيال السابقة كلنا ضحايا التعتيم والتحريم، كلنا تتنازعنا أنفسنا وضمائرنا وتتعارك بداخلنا قلوبنا وعقولنا لأننا تعلمنا في مدارسنا أن الحق أوحد لا يمكن مساءلته، وأن المنظور أعور بعين واحدة، ولا عين أخرى له، وأن السؤال حرام والتشكك هلاك والتجرؤ على التفكير والتدبر المختلفين إنما هما الطريق إلى النار. في زمننا لم يكن هناك إنترنت يوفر لنا المواد المحجوبة ولا وسائل تواصل تفرض علينا الآراء الأخرى التي تبدو لنا الآن غريبة غير قابلة للتصديق. كانت هناك المَدرسة و”أبلة الدين” التي هي في الغالب ذات منظور طائفي متطرف والبيت الذي يسير أموره على “ما وجدنا عليه آباءنا.” كنا جميعاً نعتقد أن التاريخ الإسلامي خط مستقيم مستمر، لا يلف يمينا ولا يسارا، وأن صفحاته كلها ناصعة البياض، وأن “حقائقه” المكتوبة في كتب المنهج وفي المواد المقروؤة المسموح بها هي الحقائق المطلقة التي لا تقبل النقاش. أقل القليل كانت لديهم الفرصة لأن يروا منظورا مختلفا، إما لاختلاف مذهبهم أو لاتساع نادر في دائرتهم الثقافية. المعظم كان لديهم عدسة واحدة مقعرة هي الوحيدة المتاحة للنظر من خلالها في عمق التاريخ.
لذلك، تجتاح جيلنا التعددية المتوفرة الآن بألم وصراع داخلي، تهاجمنا كأنها غزو جراد لا نعرف كيف نهشه. لقد بدأت البواطن تظهر والكثير من المثالب القصصية والتناقضات التاريخية تطفو، فتترك الكثيرين منا غير قادرين على الرد، عاجزين عن إقناع أنفسنا دع عنك غيرنا، ليس ذلك لضعف في مادة العقيدة ولكن لضعف في تسليحنا بالتنوع والاطلاع والفهم. كل عقيدة في العالم، كل فلسفة وأيديولوجيا، قادرة على الصد عن نفسها لو أن أتباعها ثقفوا أنفسهم وشكلوا مصدات ردودهم. أما العقيدة التي يوصد أصحابها الباب من دون أسئلة وتشككات الآخرين، من دون حتى مواجهة التعقيدات التاريخية والوقائعية والتشريعية الوارد ظهورها في مادة عقيدتهم مع تغير الزمان والمكان، فتلك عقيدة محكوم على أصحابها بالعذاب والانعزال عن الآخرين والشعور المستمر بتآمر العالم عليهم وبتجردهم من وسيلة للدفاع عن أنفسهم. هل يبدو هذا التوصيف مألوفاً؟
وها هو زكريا بطرس، القمص الأرثوذكسي المصري والذي اشتهر بعدائه للإسلام وأتباعه، يعيد ويزيد في كلام يعرف كيف يؤذي به المسلمين ويستثير غضباتهم، وكأنه يستمتع ساديا بإيذاء وتعذيب المسلمين من حوله. إلا أن هناك درسا مهما مستخلصا من كل قبح تعابير ورخص أهداف كلام بطرس، ولربما هذا الدرس ينحصر في جزئيتين: الأولى أهمية استبدال الغضب الانفعالي بالتسلح العلمي والمعرفي للرد والتناظر إذا ما وردت الحاجة، وهذا يتطلب معرفة باستشكاليات التشريع وبتناقضات وقائع التاريخ ومواجهة الأمور الحساسة المؤلمة التي غالباً ما يتفادى المسلمون التعامل معها مستخدمين كمام حرمة السؤال وتبرير أن “للخالق حكمة لا نعلمها ولا نستطيع التساؤل حولها.” لم تعد هذه التبريرات ناجعة اليوم، نحتاج المواجهة والبحث وأحيانا الاعتراف بالقصورات والاستشكاليات، لتبدأ عملية التفكيك وإعادة صياغة الحقائق وبالتالي تشكيل الردود وصولاً لراحة نفسية حقيقية مع عقيدة متوائمة مع الزمان والمكان.
وأما الجزئية الثانية للدرس فتنحصر في أهمية الوعي بحجم الألم الذي تسببه حديث بطرس غير النظيف، بحيث ألا يوقعه المسلمون بالآخرين. إذا كانت ادعاءات واتهامات وأسلوب بطرس الرخيص في مهاجمة المسلمين كلها موجعة للقلب ومثيرة لأعلى درجات الغضب والحنق، فمن باب أولى أن يكف المسلمون كذلك أذاهم عن أصحاب الديانات الأخرى، من باب التكافل الشعوري، وألا يوقعوا أذى بآخرين هم ذاقوه وخبروا حجم إهانته وألمه. يجب على المسلمين اليوم التوقف عن مهاجمة الأديان الأخرى، اتهامها بأن كتبها مزورة وبأن أصحابها قردة وخنازير، وبأن أفرادها لا يزيدون عن أن يكونوا ضيوفاً ثقيلين مستوجبي دفع الجزية في الدولة الإسلامية المثالية الموعودة. إذا كنا نتألم من بطرسهم، وللمسلمين كامل الحق في ذلك، فلنلم نحن أيضاً بطارستنا ونوقف السب والتكفير والإعلان المستمر عن إخراج الآخرين من رحمة الله.
هذا البطرس لن يتوقف، وإذا ذهب سيأتي غيره. فبدلا من إضاعة الوقت في الغضب والحنق، على المسلمين أن يسلحوا أنفسهم بالعلم والمعرفة والمواجهة الحقيقية مع أنفسهم وتاريخهم والاستعداد لأصعب الأسئلة والتشككات والتناظرات، ثم عليهم أن ينتهوا عما ينهون عنه، وأن يرحموا الآخرين مما يؤلمهم ويؤذيهم. لا تغضبوا من فعل ثم تأتونه بحجة أنكم الحق المطلق وغيركم كافر مارق، “عار عليك إن فعلت عظيم”.