بين العنف والرغبة
في حين يتزايد الحديث «الدعائي» عن اللحمة الوطنية والتوافق المجتمعي، وفي حين تسعى الحكومة إلى تقنين الوحدة الوطنية ودس المحبة والتواؤم في حلوق الناس بالقوانين وما يتبعها من عقوبات، ترتفع نسبة العنف الجسدي واللفظي، ويتزايد التراشق المذهبي والديني، وتتكاثر الاعتداءات التي لم تعد معزولة تحت جنح الخفاء.
كان لافتاً أن امتلأت جرائد الأسبوع المنصرم بأخبار “ردود فعلية” تتمثل باتفاع نسبة العنف في المجتمع، وتصاعد مظاهر “التعري” بين فنانات الغناء خصوصاً في حفلات ليلة رأس السنة. يبدو هذان الخبران مرتبطين تماماً، من حيث إنهما مظاهر وليسا مشاكل، أي أنهما تعبير عن خرق في الاستقرار المجتمعي وليسا خروقاً بحد ذاتهما.
ففي حين يتزايد الحديث “الدعائي” عن اللحمة الوطنية والتوافق المجتمعي، وفي حين تسعى الحكومة إلى تقنين الوحدة الوطنية ودس المحبة والتواؤم في حلوق الناس بالقوانين وما يتبعها من عقوبات، ترتفع نسبة العنف الجسدي واللفظي، ويتزايد التراشق المذهبي والديني، وتتكاثر الاعتداءات التي لم تعد معزولة تحت جنح الخفاء، بل خرجت إلى حيز الفضاء المفتوح المليء بالناس. وهكذا تكون الحال عندما يتم التغاضي عن الأسباب قفزاً الى حلول ساذجة هي بحد ذاتها أكثر عنفاً من المشاكل التي تحاول حلها.
كما تتجلى سذاجة أسلوب القسر والمنع في معالجة ما ينظر إليه على أنه إسفاف في الذائقة الفنية، وعلى الرغم من أنني أعتقد أن للفن حريات غير محدودة يجب ألا يقسرها شيء، فإنني أعترف أن الذائقة الفنية العربية، وفي الأماكن الأكثر محافظة والأشد منعاً، هي الأكثر تحلحلاً ورخصاً، وهنا، عوضاً عن تفهم أسباب هذا الاندفاع العام نحو الأرخص، تتجه السلطات في أنحاء الوطن العربي المكلوم إلى المزيد من المنع والحجر والتقييد، كلها من السذاجة بمكان ومن الأذى بدرجة تثير الضحك والأسى، إلا أن السلطات لا تملك إلا هذه الأساليب القمعية، فهي الأساليب الأسهل، وهي تظهر الحكومات أكثر قوة ومحافظة، والأهم، أنها الأساليب الأكثر ستراً لمصدر المشكلة ألا وهي السلطات بحد ذاتها. فلولا التحالفات السياسية الدينية التي رفعت أسهم باعة الدين في أنحاء الوطن العربي المروجين لبضاعة الرغبة تحت مسميات “شرعية” مختلفة، ولولا تحفيز فتاوى هؤلاء المبيحة لكل شهوانية مريضة تحت ستار الدين ليصبح إرضاء هذه الرغبة هو غاية أهداف الرجل المسلم، ويتحول كل همه إلى الكيفية التي يتحصل بها على المزيد وبالطرق الشرعية ومع كل أنثى، طفلة أو “صديقة أجنبية” أو حتى “كافرة زنديقة”، فكل شهوة لها منفذ وكل رغبة لها طريق، لولا كل ذلك، لما كانت عندنا مشكلة هذا الهوس الجسدي، ولما أصبحت الذائقة العامة هي تلك التي تنحو إلى المزيد من الشهوانية المرئية.
دوماً نحن نهرب من لب المشكلة، نقفز خطوة كبيرة باتجاه حلول بائدة ساذجة لا تفعل سوى أنها ترسخ المشكلة وتستر المتسبب الأصلي بها. يوجد عنف؟ إباحية؟ توجه عام هابط في الحوار والذائقة؟ نعم كل هذا صحيح، إلا أن السؤال يبقى: في أي المجتمعات يرتفع العنف وتنخفض الفضيلة؟ أي حكومات تقودها وأي تحالفات تصول وتجول في أنحائها؟ قد تتجلى الحلول عند ضفاف إجابات هذه الأسئلة وفي محاولات التعامل الجاد مع الحقائق المؤلمة الناتجة عن الأجوبة لا في قوانين المنع والزجر، وبالتأكيد ليس على رؤوس مطاعات قوات الأمن، وبلا شك ليس في ترهيب دعاة الدين وترغيباتهم المريضة الرخيصة.