بين إرهابنا وإرهابهم… يا قلبي لا تحزن
سبعة ملايين سنة من التطور للجنس البشري وما زلنا مخلوقات بدائية تقتل بدافع شهوات فكرية مريضة لا تشبع جوعاً ولا تسكت عطشاً ولا تؤمن حماية، شهوات فكرية تؤمن غرورنا وتعزز اعتقادنا بعظمة وجودنا، هذا الوجود الضئيل عديم المعنى عدمي النهاية، يعرف عالم المخلوقات الحيوانية عدداً من الأجناس التي تقتل ببشاعة، وأحياناً تعذب بعضها بعضا، ولكنها في الأغلبية الغالبة تفعل ذلك من أجل إشباع غريزة من غرائز البقاء، إلا جنسنا الذي يبدو أنه يقتل أحياناً بتضاد مع بقائه وبدوافع من كراهية لا تبرير لها إلا من حيث القصور في تطوره الذهني والجسدي.
إلا أن بعض النظريات تقول إننا نقتل قتلاً عشوائياً بدافع البقاء أحياناً في الواقع، فلابد لأعداد الجنس البشري أن تبقى في محدودية معينة وإلا نضب معين الأرض وضاقت بمجملها بهم وفني الجميع، وما القتل العشوائي الذي يجري أحياناً سوى وسيلة لقتل القليل ليبقى الكثير ويستمر هذا الجنس الغريب. أياً كانت الأسباب والدوافع فمن المفترض أننا وصلنا إلى مرحلة وعي بنواقصنا التي يمكننا تفاديها، إلا أننا ما زلنا نفوت الصورة الكبيرة وننظر في التفاصيل المنمنمة، فتفوتنا تفاهة أهدافنا وعبثية جهودنا، ونضيع قيمة اللحظة التي هي كل ما لنا في هذا الوجود العبثي الحزين. تتعدد جرائمنا والفناء واحد، تتسلسل قصص العنف التي تجر إحداها الأخرى، كلها تسرق من وقتنا القصير اللحظي على هذه الأرض، ضياء بركات وعروسه يسر وأختها رزان كانوا يعيشون في سلام في تشابل هيل في ولاية نورث كارولينا، إلى أن وجدتهم الكراهية وتعثر بهم الحقد؛ فأتت طلقة على رأس كل منهم لتنتقم من إيمانهم، من فكرة يعتقدونها، من رأي يعتنقونه.
حاول الإعلام الأميركي التعتيم على الموضوع، ثم تكتيم أسبابه ثم تكميم دوافعه، ولكن لأن الإعلام الحر أقوى من ذاك المستبعد، ظهرت الحقيقة التي ما كانت أميركا تود ظهورها خوفاً على “الحملة الأميركية ضد الإرهاب”، وحماية للتبرير الأميركي في التعامل المتعسف مع العالم أجمع، فالحرب ضد الإرهاب هي الورقة الأميركية الرابحة، وأن يأتي الإرهاب من عقر الدار، فإن ذلك يهدم الحجة ويضعف التبرير.
ستتوالى التفاصيل والتبريرات ولكن تبقى حقيقة أن ثلاث أرواح شابة ذهبت ضحية معتقدها في جريمة تبدو أشبه بمحاكمة تلاها حكم إعدام، ولقد ثار المسلمون في أميركا والعالم بسبب هذا الحادث، نعتوه بالإرهاب، وهو كذلك، “معايرين” أميركا بنفاق موقفها، وهو كذلك أيضاً. هذه أميركا التي “تحارب الإرهاب” في العالم أجمع غير قادرة على أن “تشكم” أبناءها في عقر دارها، إلا أنه يبقى هناك فرق لا يمكن تلافيه وهو أن إرهابنا الديني منظم وشبه مقنن، له مؤيدوه العلنيون، والآن له أشباه دول ترتع في جنباتنا وتخرج الجموع نصرة لها.
إرهابنا يؤسس له في المدارس، ويدفع له في المؤسسات الخيرية والشبابية، تسانده الحكومات وتعقد معه الصفقات، ويزكيه بعض كبار “رجالات الدين” في نواحينا، وفي الغرب إرهاب الفكر أقل علنية وأكثر “تهذيباً”، تقاومه الجموع في معظمها، يقوم به البعض في خروج عن النسق الفكري العام وعن الأيديولوجية المهيمنة، مصدره الرئيسي هو إعلام كاذب يروج لصور غير حقيقية عن كل ما هو غير غربي. إرهاب الغرب في مجمله حكومي، تؤديه الحكومات بعد “تزويقه” بأسباب مختلفة، أما إرهابنا فيستند إلى العامة التي تسيرها الحكومات؛ ولذا هو إرهاب متغلغل عميق التجذر عصيّ على الانتهاء.
كل هذا التحليل ما هو إلا نظريات قابلة للنقض والخلط، فالقتل المنظم باسم الدين قابله في فترة الحداثة البشرية، من أواخر القرن التاسع عشر دخولاً في بدايات القرن الحادي والعشرين، قتل منظم باسم مقاومة الدين ولربما قبل ذلك، إبان الثورة الفرنسية العظيمة وبعدها، وما الأنظمة الفاشية لهتلر وستالين وفرانكو إلا خير مثال على الوحشية الإرهابية البشرية للإنسان المدني الحديث، نجد لها استمرارية في الكثير من الأنظمة العربية المدعية للمدنية والعلمانية اليوم، وصدى ضعيف عند الأنظمة الغربية في سياساتها غير الخفية على أحد.
خليط غريب من العداء لدين الآخر، ثم العداء للدين كمفهوم بحد ذاته، ثم العداء للون أو عرق وأحياناً حتى لاسم عائلة، أسباب تتخثر تفاهتها إذا ما نظرنا إلى الصورة الكونية الكاملة، قتل وذبح وصراع ودماء، وكلنا، كما حللت صغيرتي ذات مرة بعد أن شرحت لها النظرية الداروينية، في الأصل سمكة.
رحم الله عائلة بركات، خسارة بشرية فادحة، تتأتى فداحتها من شناعة الأسباب وإرهابية الدوافع، تقف ذكرى هؤلاء الشباب الثلاثة تذكيراً للغرب أنهم في النهاية بشر غير مؤمّنين ضد الإرهاب الفكري وغير معزولين عن نواقص البشر وتخلفهم، وستبقى رائحة الدماء النقية تزكم الأنوف في الغرب، تحيلهم إلى إعلامهم الذي خلق الكراهية، وتوعز لهم بمراجعة منهجيتهم التي طالما لوحوا بها في وجوه الآخرين، وإذا بها منخورة مبتورة. ضياء، يسر، رزان، ارقدوا بسلام.