بيزا
نحن ومن الأساس نبني على مبادئ خربة، ونرفع البناء على أعمدة هشة من الوساطة والمحاباة، ونلحم أجزاء البناء بمشاعر الرعوية والاستحقاق من الدولة، فيقوم بناؤنا مائلاً كما «بيزا»، مهدداً، كما جزر المالديف، أن يقع في أي لحظة أو يغرق في أي لحظة أخرى.
خبر سحب الاعتراف من عدد من الجامعات الأميركية ليس في الواقع خبراً مفاجئاً على الرغم من أن مجموعة كبيرة من الجامعات المذكورة في القائمة كانت لها سمعة ممتازة، وتعتبر من الجامعات ذات المكانة الأكاديمية الجيدة في الولايات المتحدة. الخبر متوقع بسبب سياساتنا الأخيرة والتي كانت لابد أن تقود الوضع الأكاديمي إلى حيث نحن الآن.
قبل عدد من السنوات، لربما خمس منها، فتحت وزارة التربية باب البعثات على مصراعيه، وتم إرسال تقريباً كل متقدم لبعثة خارجية ما عدا المتقدمين لمقاعد الطب، فهؤلاء تم التدقيق في مؤهلاتهم بشكل أكبر. وما هو سبب فتح باب البعثات على مصراعيه؟ السبب هو ارتفاع أعداد الطلبة خريجي الثانوية والملزمة الدولة بإلحاقهم جميعاً بالدراسة العليا الجامعية، حتى لو انخفضت معدلاتهم الدراسية. ولِمَ تلتزم الدولة بتوفير مقاعد دراسية لضعيفي المستوى الأكاديمي؟ السبب أنهم كويتيون، وكل كويتي هو ملزوم من الدولة تعليماً وتوظيفاً بغض النظر عن مؤهلاته. وما هو سبب إلزام الدولة بالتعليم والتوظيف اللامحدودين؟ السبب هو أن الدولة الرعوية تستمر وتستقر برضا مواطنيها وسكوتهم، والرضا والسكوت يتأتيان من توفير كل الخدمات بشكل مجاني أو شبه مجاني للمواطنين وتدليلهم وإشعارهم أنهم الأفضل شرط السكوت والحمد والشكر والدعاء بعدم التغيير علينا.
المهم، عودة على كل هذا الطريق الطويل، يتضح أن رعوية الدولة أدت إلى الدفع بها لتوفير مقاعد دراسية لكل مستحق وغير مستحق من مواطنيها حتى تسكت الأصوات المرتفعة الشاكية من قلة الكراسي الجامعية المتاحة، وعليه، فتحت الدولة باب البعثات الخارجية والبعثات الداخلية، وأرسلت الراسب قبل الناجح، وأدرجت الضعيف قبل القوي في التعليم الجامعي الداخلي والخارجي. على أثر ذلك، امتلأت مقاعدنا الخاصة والحكومية داخلياً، وقوي مفهوم “زحلقة” الطلبة نحو النجاح لإخلاء مقاعدهم لاستقبال المزيد من الأعداد المتدفقة، تزامناً مع تقليل عدد المقاعد التي كانت مخصصة للوافدين والبدون المتفوقين، فعيالنا أولى ولو قصر جهدهم. وعليه امتلأت المقاعد الجامعية بالكثير من غير المستحقين، مما أخرج على الضفة الأخرى الكثير من غير المؤهلين، ليعود هؤلاء إلى سوق العمل والتعليم، فينتجوا كوادر شابة غير مؤهلة، تدرج في الجامعات، وتتخرج لتعود فتنتج المزيد من غير المؤهلين، وهكذا ندور وندور في الدائرة المرعبة المغلقة.
أما في الخارج، فتتكوم أعداد الطلبة الكويتيين في الجامعات حتى في تلك ذات المستوى الجيد منها. عادة، وعلى الرغم من حرص هذه الجامعات على مستواها، إلا أنها في النهاية مؤسسات خاصة لها جانب تجاري قوي، وعليه، تميل هذه الجامعات إلى قبول الطلبة الحاصلين على بعثات بسبب ضمان الدفع المنتظم. فإذا قبلت إحدى هذه الجامعات 100 طالب كويتي، على سبيل المثال، ثم رسب 70 منهم بسبب المستوى المتدني، فإن خسارة هذه الجامعة ستكون كبيرة في حال سرحت كل هذا العدد الكبير من الدافعين المنتظمين. هنا تستبقيهم الجامعة، وتحاول مسايرة مستواهم حتى لا تتكبد الخسائر الكبيرة. بعدها تنهار سمعة الجامعة خصوصاً بعد أن تتكدس أعداد كبيرة من الخليجيين فيها، لنعود نحن ونعلن فقد الثقة في هذه الجامعة ما إن نبدأ بمعاينة مخرجاتها بعد كم سنة من طلبة عائدين غير قادرين حتى على الحديث بالإنكليزية.
وهكذا، ومثلما خربنا نحن المطارات الغربية بالإرهاب المصدر من عندنا (كما قال المفكر السعودي إبراهيم البليهي) حيث غيرنا طبيعة التنقل عندهم وهززنا ثقتهم في فكرة السفر وفي شخوص المسافرين، ها نحن نخرب جامعاتهم بالكسل والدلع والرعوية المصدرة جميعاً من عندنا، فنعرض عليهم أعداداً وأموالاً صعبة الرفض، مرسلين إليهم أبناء (ليس الكل بالتأكيد) تعودوا أن ينقذهم كبير ما وتساعدهم أموال ما وتخلصهم واسطة ما، فنغير نحن هذه المؤسسات ولا نتغير، ونخربهم ولا ننصلح. وهكذا نحن، العرب عموماً، أينما نحل، تحل معنا بركاتنا.
طبعاً هذه الجامعات تتحمل الجزء الأضخم من المسؤولية، فلا يمكن أبداً تبرير تقاعسها ومغامرتها بسمعتها الأكاديمية، ولكنني وددت الإشارة إلى أن لدينا من الخرابات الداخلية ما يسعف ويزيد على الخرابات الخارجية. نحن ومن الأساس نبني على مبادئ خربة، ونرفع البناء على أعمدة هشة من الوساطة والمحاباة، ونلحم أجزاء البناء بمشاعر الرعوية والاستحقاق من الدولة، فيقوم بناؤنا مائلاً كما “بيزا”، مهدداً كما جزر المالديف، أن يقع في أي لحظة أو يغرق في أي لحظة أخرى. هذا وإذا صح خبر فرض التحويل من هذه الجامعات على كل الطلبة المدرجين فيها حتى ولو كانوا خريجين، فإنه يبدو أننا لا نتوقف أبداً عن استصدار القرارات العشوائية الترقيعية، نرمم هذا العمود ونهدم الخمسة القائمة بجانبه.
فلوسنا كثيرة، لمَ لا نستورد مستشارين يشيرون علينا؟ السؤال ما حُرُم ترى، ومن قال لا أعرف فقد أفتى.