“بنقاطع ما بنقاطع؟”
بنقاطع شو جابرنا وشو هي الأسباب
ونحن وألفونصو صرنا أهل وأحباب
لا شو نقاتل ما عنا خيل ولا سلاح
وألفونصو يقاتل عنا ونحن بنرتاح
نحن ضده في معنا بالحرب رماح
افتحنا لما اتجمعنا للعز بواب
قررنا وما تعلمنا لشو التقرير
وفي واحد أكبر منا عامل تقرير
وناطرنا بتناطرنا يوم التحرير
نحن المجد بينصرنا سيفه الغلاب
من أغنية “بنقاطع ما بنقاطع” من مسرحية “ملوك الطوائف” لمنصور الرحباني.
الله عليكم يا رحابنة، الله على مسرحكم العظيم الذي غنى هزائمنا ونكساتنا و”وكساتنا” كأنه يغني الماضي كله ويتنبأ المستقبل بمجمله. “بنقاطع ما بنقاطع مش ع الطميش/ وبنقاطع ما بنقاطع تا نعرف ليش” غنى اثنين وعشرون من أمراء وملوك الطوائف على خشبة مسرح الرحابنة، وكأني بهم لا يزالون يغنون تلك الأغنية الساحرة الساخرة إلى اليوم.
المقال طويل، للاختصار والاستمتاع، يمكن الاكتفاء بقراءة كلمات الأغنية أعلاه، تحكي قصتنا بمجملها.
تعقدت المسألة كثيرا، ودخلت تركيا على خط المقاطعة، وثارت المقارنات بين أسباب مقاطعة فرنسا وأسباب مقاطعة تركيا، ودارت الزوابع حول فرنسا المعادية للإسلام وتركيا المعادية للعروبة، ولا أحد يذكر أو يتذكر مقاطعة إسرائيل. تلك أيام ولت.
الموضوع الفرنسي تحديدا عصي على الشرح والتحاور، أينما وليت وجهك تعاملا معه، بديت إما متطرفا كارها أو علمانيا معاديا للدين، والوجهتين غير حقيقيتين، والحُكمين غير عادلين. قبل أيام تحاورت مطولا على أحد مجموعات واتسآب مع مجموعة من الأكاديميين والسياسيين حول الموضوع، ووجدتني أبذل جهدا حادا لإثبات عدم عدائيتي لأي توجه ديني، وهو الحكم الذي يلبسني أصلا بحكم علمانية توجهي ويسارية هواي، وجهد آخر مساوي في المقدار ومتضاد بالاتجاه تجاه إثبات تمسكي اللا مشروط بحرية الرأي والتعبير.
بعد أن انتهت الجولة المرهقة، عدت لمراجعة الرسائل المكتوبة كلها وفكرت. لا يجب أن يكون الموضوع معقدا لهذه الدرجة. لا يجب أن يكون عصيا على الشرح والتفسير. لا يجب أن يحمل كل هذه القراءات للنوايا. للموضوع قاعدة أساسية، صلبة وصلدة وباردة وقاسية، ولكن لو أننا وقفنا عليها جميعا، رغم قسوتها وبرودتها، لربما تفادينا كل هذا اللغط المرير.
لم يكن يفترض بالمدرس المغدور أن يعرض الكاريكاتير المسيء للرسول، فهو يعلم بحساسية المادة وبالتهميش الذي يتعرض له المسلمين في فرنسا والذي يساهم في رفع درجة حساسيتهم، ولم يكن يجدر بالرئيس الفرنسي أن يتدخل بكلام استفزازي ساخر تأييدا لعرض الكاريكاتير، كان يمكنه أن يدافع عن حرية الرأي دون اتخاذ هذا الكاريكاتير الساخر رمزا لها، ولم يكن يفترض بالحكومات الإسلامية أن تصدر بيانات دفاع عن رمز ديني مهما بلغت عظمته، وهي تتخذ شكلا مدنيا خالص، ولم يكن يجب أن تكون ردة فعل الشارع العربي والإسلامي بهذه الصورة العنيفة، وأحيانا المهينة لفرنسا ورئاستها، والتي سيكون لها تداعيات، خصوصا من حيث المقاطعة للمنتج الفرنسي، على الداخل العربي الإسلامي. ولكن يبقى أن السؤال المهم هو ليس “هل كان يجب على كل هذه الأحداث أن تقع؟” وإنما “هل كان لها الحق في أن تقع، هل كان لمنفذيها الحق في الإقدام عليها؟”.
إذا كنا لنتخذ من قاعدة احترام حرية الرأي والتعبير قاعدة، فستكون الإجابة بنعم، رغم ما تحمله هذه الإجابة من آلام ومصاعب وكلفة عالية. إنها القاعدة الصلبة الصلدة القاسية المؤلمة والآمن الوقوف عليها في ذات الوقت. احترام الرأي الآخر ليس فعل نأتيه تجاه الآراء المقبولة والمتفق عليها، تلك لا تحتاج لمساحة حرية تحميها وتوسع لها الطريق، إنما احترام الرأي الآخر هو فعل نحتاجه حين يكون الموضوع شائكا مختلفا عليه، وكلما زادت أشواك الموضوع وارتفعت درجة الاختلاف حوله، كلما زادت درجة حاجتنا لمفهوم الحرية العظيم، وكلما زادت أهمية القاعدة المشتركة التي يجب أن نقف جميعا عليها رغم برودة هذه القاعدة وصلادتها ودرجة حرقها للأقدام الثابتة عليها.
كان من حق المعلم الفرنسي عرض هذه المادة الشائكة على طلبته اختبارا لمفهوم حرية الرأي (تماما كما يفعل معلمي التربية الإسلامية في مدارسنا بتعليم أطفالنا أن الإنجيل محرف على سبيل المثال)؛ وكان من حق الرئيس الفرنسي مساندة مواطنه المغدور وطمأنة الناس على ثبات القاعدة الفرنسية التقديسية لحرية الرأي مهما بلغت المصاعب ومهما كانت حساسية الموضوع؛ وكان من حق الحكومات العربية والإسلامية أن تصدر بيانات دفاعية عن الرسول الذي هو رمز مقدس لأغلبية غالبة من مواطنيها؛ وكان من حق الشارع العربي الإسلامي أن يثور ويغضب وينزل شاتما ويرتفع لاعنا لفرنسا ورئيسها؛ كل هذه حقوق، يحميها مفهوم حرية الرأي، وكلها غير حصيفة تماما.
نعم، حرية الرأي يجب أن ترفع السقف وتطلق اللسان والعنان، إلا أنها لا يجب أن تتوه العقل، لا يجب أن تقف أمام المنطق والحكمة، ولا يجب أن يتم التعنت في استخدامها حد جرح الآخرين واستثارة أوجاعهم ونكئ جراحهم والضغط على نفوسهم المقموعة. كل ذلك لا يجب، ليس حصيفا، ليس عقلانيا أو متزنا، لكنه، رغم تهوره ونزقه، يبقى حق لصاحبه.
يجب هنا أن نعي أن معنى تحرير الرأي من الأصفاد ليس احترامه، بل في الغالب الوضع ليس هو كذلك. تحرير الرأي لا يستوجب احتراما أو قبولا أو وضع ذلك الرأي موضع تنفيذ، تحرير الرأي يتطلب مساحة فقط، أن ينطلق هذا الرأي دون تهديد لصاحبه، دون محاولة إخراس له. ليس المطلوب تقييم الرأي الآخر ولا التفكير فيه ولا حتى مجرد الاستماع له، كل المطلوب ألا تهدد حرية صاحبه في إطلاقه، ألا تغتصب مساحته في التعبير عن رأيه، مهما رخص هذا الرأي وتواضع وساء، مهما أوجعك وضرب في قلبك وشكك في أعمق أعماق مبادئك وإيمانياتك. نعم، قاسي هو مفهوم حرية الرأي والتعبير، متعب ومؤلم، ربما هو المنهجية المدنية الأقسى على الإطلاق، إلا أنه يمثل القاعدة التي تثبت أقدام البشر جميعا وتحميهم من زلازل الحروب والصراعات التي لن تنتهي لو أن ذلك المفهوم غاب.
يحتاج المسلمون لأن يفهموا أن الإسلام ورسوله الكريم ليسا موضوع حسبة، فالمتوفين لا ترفع قضايا نيابة عنهم، بما فيهم الرموز الدينية وربما أولهم الرموز الدينية، ذلك أنهم ملكية عامة، لا يخصون أحدا دون غيره وذلك لأنهم يمثلون فكرا وعقيدة، نقاشها وتمحيصها ونقدها هي أحد أهم أوجه حرية الرأي والتعبير.
الشخوص الدينية ملك للبشرية والأديان ملك للبشرية، لا أحد يتفرد بها، وعليه لا أحد له الحق في التقاضي نيابة عن شخوصها أو المطالبة بإسكات الآخرين الناقدين لها. الفكر الأيديولوجي والثيولوجي ملك للجميع، لأي الحق في اعتناقه، تركه، نقده، استحسانه، التسويق له، أو محاربته بالفكر المقابل. لا يملك أحد رمزا ولا فكرا، ذلك إرث البشرية برمتها.
لفرنسا تاريخ شائك مع الأديان، مع فكرة الأديان. هو تاريخ حوَّل المجتمع الفرنسي برمته إلى مجتمع عنيف في التعامل مع التعبيرات الدينية. بما لا شك فيه، معظم هذا العنف ينصب اليوم على الإسلام لأسباب عدة، ربما أوضحها هو أن المسيحية واليهودية انضويا تحت لواء الدولة المدنية، وأضحيا يرميان للمواءمة مع الحداثة والحضارة والمفاهيم الحقوقية الحالية، في حين أن الإسلام، في مفهومه العام، بقي على قراءاته التراثية القديمة التي لا تزال تقاوم الحداثة والمدنية. حتى المسلمون الذين يحاولون إحداث نقلة نوعية في القراءة الإسلامية، ينالهم نصيب كبير من التهميش والعنف.
مسلمو أوروبا أخذوا بضع خطوات تجديدية، كتأسيس مسجد تئمه امرأة على سبيل المثال، إلا أن مثل هذه التطبيقات والمحاولات القرائية والتأويلية، هي محاولات متناثرة معزولة، تصطدم دوما بمقاومة هائلة بل وبتحدي عنيف من قبل التيار الإسلامي التقليدي والذي هو الأعم والأقوى. فرنسا تضع عدستها المكبرة على الإسلام والمسلمين، هذه حقيقة، ذلك أن المسلمين في فرنسا يقدمون إسلاما يتناقض وروح هذا المجتمع المدني الصارم ويتعاند ومقوماته الأساسية. الفكران على طرفي نقيض، وهو ما قادنا للوضع المتأزم اليوم.
لم يكن ماكرون يملك سوى أن يدافع عن مواطنه المغدور وأن يؤكد على اعتزازه بحرية الرأي من خلال تمسكه بنشر الكاريكاتيرات المسيئة التي أصبحت اليوم، رغم ركاكتها ورخصها، رمزا لحرية النشر والتعبير. هذه الرمزية هي من صنع المجتمعات العربية الإسلامية التي قدمت رد فعل عنيف، حوَّل عملا ركيكا إلى رمز فني مهيب، مما يذكرني بكتاب “آيات شيطانية” لسلمان رشدي الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى كتاب يرمز “للبحث الحر” بعد أن أُطلقت فتوى “تستحسن ولا تعارض” قتل رشدي. أضعف أعمال رشدي أصبحت أشهرها وأهمها وانتقلت به من موقعه ككاتب أكاديمي مغمور لا يقرأ له سوى المتخصصون جدا والمهتمون بحركة “الواقعية السحرية” إلى صفوف الكتاب المشاهير. تحول رشدي إلى نجم، بمعيتنا وبفضل صخبنا الذي يقودنا دوما لطريق مسدود. هل هو حق للمجتمعات الإسلامية أن ترد بغضب كما فعلت وهل هو حق للرئيس الفرنسي قول ما قال؟ نعم. هل كان ذلك حصيفا من الطرفين؟ لا مطلقة.
ردود الفعل الإسلامية الشعبية متوقعة ومفهومة بل ومنتظرة، هي حق للشعوب، وهي طريقة مناصرة لرمزهم وانتصار لعقائدهم وإيمانياتهم، ذلك إذا ما توقفت عند الاحتجاجات والتجمعات العامة والكتابات الغاضبة على وسائل التواصل. انتقال هذا الغضب إلى حيز العنف ينفي عن الفعل صفة الأحقية، فهو بخلاف أنه غير عقلاني، هو يتجاوز تماما مفهوم الحرية وصولا لإيقاع أذى بدني ولتهديد أمن وسلامة الآخر، وهو يحول المسلمين من أصحاب حق إلى مرتكبي باطل ويعزز الفكرة التي يثورون هم بحد ذاتهم ضدها. أن تثور لاتهام دينك ونبيك بالعنف ثم تصبغ ثورتك بالتهديد والوعيد بالقتل وإسالة الدماء، فأنت فعليا “تهزم هدفك”.
أما مقاطعة المنتجات الفرنسية من قبل “الدول الغاضبة،” فهو قرار سياسي اقتصادي اتخذته بعض الأنظمة العربية الإسلامية ردا على معركة أيديولوجية، وهو رد من غير الواضح مدى نجاعته أو مدى تأثيره على المقاطعين بحد ذاتهم واقتصادهم. ماذا سيحدث لكل البضائع الفرنسية التي دفع التجار المحليون قيمتها مبدئيا؟ من سيطاله العقاب فعليا بهذه المقاطعة؟ وإلى متى يمكن أن تستمر؟ وهل يمكن أن تُحارب فكرة بقرار اقتصادي؟ هل سيغير الفرنسيون مفهومهم عن المسلمين حين نقاطع منتجاتهم أم أن ما يهمنا هو فقط ألا يصرحوا بفكرتهم؟
إسرائيل تحتل قلب العالم العربي وتريق الدماء كل يوم على مسمع ومرأى العالم بأكمله، ورغم ذلك لم يتماسك العالم العربي في قطيعته، فهل سيتماسك في قطيعته الفرنسية؟ وإلى متى؟ وبأي ثمن؟ لربما من الحصيف إبعاد العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية (مع الدول الحقيقية لا المغتصبة) عن الحروب الأيديولوجية، ففي خلطها الكثير من الهرج والمرج… والحرج.