بلا دموع
أومأت لها “هل المزاج أفضل اليوم؟” بدون ابتسام ردت “أنا مزاجي طيب دوما مدام”. بادرتها مسرعة حتى لا تفهمني بشكل خاطئ “بديتي منزعجة يوم أمس، فما أحببت أن أثقل عليك، عدت اليوم لعل المزاج أحسن، هل أنت بخير؟”، بدا لي أن عيني السيدة الفلبينية الواسعتين الجميلتين، على خلاف الأعين الصغيرة اللطيفة التي يعرف بها الشرق آسيويين، قد اغرورقتا بالدموع. ظهر أسفلهما أنف عريض بعض الشيء وقد انحدر أسفله “الماسك” بتلك الطريق المستفزة التي دوما ما تثيرني لأن أهتف بأصحابها (دون أن أنفذ في الواقع): “ارفعوا القناع للأعلى،” فما فائدته وقد كشف فتحتي الأنف ليبدو وكأنه قطعة ورق تكمم فاه صاحبه عن الحديث؟ نفضت فكرة الكمام العصابية تلك عن رأسي وعدت لمحدثتي “هل أنت بخير؟”.
اقتربت المسافة بيننا بعض الشيء، بدا أن خزانة المعروضات الزجاجية التي تفصلنا قد تقلصت قليلاً حين أسندت هي كوعيها على الزجاج وتنهدت “كوارث كثيرة متلاحقة في بلدي مدام، كانت هناك عاصفة خطرة يوم أمس حين زرتني في المحل، كنت أحاول أن أتمالك نفسي وأنا أحاورك، لكن الواقع أن العاصفة كانت في أوجها وكان ابني حبيساً في مكان ما إبانها وكاد قلبي ينخلع فزعاً”. نظرت إليها وأنا أفكر في رد، إلا أنها لم تعطني فرصة، وكأن طاقة ألم فُتحت، كأن بئر معاناة فاض، تدحرجت الكلمات تباعاً تصف الكوارث المتلاحقة، فمن عاصفة إلى ما يشبه الحرب الأهلية، وأظنها تكلمت عن جماعة إسلامية قامت بأعمال شغب في منطقتها، لم ألتقط المعلومة ولم أشأ أن أستوقفها استفساراً عن رواية سياسية أثارت اهتمامي فيما هي تبوح من ثنايا وحنايا قلبها.
“الحياة هنا صعبة مدام، أنا غريبة وخائفة”.. فجأة تقلصت المسافة تماماً، رقدت يدي بجانب يدها على الخزانة الزجاجية، “كم تضحي الأمهات” قُلت لها. أمسكت أنا زمام الحديث لوهلة، حكيت لها عن محبتي “لآتيه” صفية، حيث “آتيه” هو لقب يعني الأخت الكبرى وهو اللقب الذي ننادي به أختنا الكبرى صفية والتي تعمل منذ ما يزيد على الثمانية عشر عاماً في منزلنا. أخبرت محدثتي أنني شهدت تضحيات صفية من أجل أبنائها على مدى كل هذه السنوات، وعليه فإنني أتفهم وجع قلبها في البعد وقسوة التضحيات التي تقدمها من هذه المسافة البعيدة جغرافية وأيديولوجيا. شاركتها تجاربي مع أبنائي كذلك، شكوت لها مصاعب تربية الأبناء وما يتطلبه الموضوع من إيثار لا ينتهي، وقارَنَتْه هي بإيثاراتها المضاعفة، حيث يضاعفها الفقر والمعاناة والبعد والغربة وقسوة الزمن. صادقت على كلامها وقد خجلت من شكواي، مما شجعها لتحكي لي عن متاعب زواجها، عن الزوج الذي هجرها وترك مسؤولية الأولاد كاملة عليها بعد مغادرتها الفلبين للعمل في الكويت، عن الخيانات والعذابات، عن القوة والضعف، لتختم قائلة “نحن النساء أقوى بكثير مدام، أنا أعمل كل القرارات، أنا أقدم كل التضحيات”.
جفت عيناها الجميلتان في هذه اللحظة، جحظت النظرة وهبط “الماسك” إلى ذقنها انطلاقاً من هذا الطبع الإنساني الغريب اللطيف الذي يدفعك لأن تخفض كل دروعك ما أن تستأنس بشخص وترتاح له. وجدت نفسي أسحب الماسك أنا كذلك، انخفضت أصواتنا وتقارب رأسينا وكأن الكورونا بكل مخاطرها ومآسيها قد اختفت من بيننا في هذه اللحظة، وكأننا على وشك أن نسر لبعضنا البعض بسر خطير لا يعرفه أحد غيرنا في هذه الدنيا. “النساء هن الأقوى دوماً يا صديقتي” عقبت أنا “نحن من نتحمل، نحن من نقرر ونحن من يدفع الثمن”، “صدقت مدام” ردت هي “إنه قدرنا القاسي”.
استمر الحوار لما يزيد عن النصف ساعة، اشتكت لي غربة روحها في بلد لا تعرف عنه الكثير، جفاف قلبها في بعد أولادها، مخاوفها الكثيرة من ارتكاب خطأ في هذا البلد الغريب عنها مما قد يوديها في طريق مظلم بعيد.
راعتني وحدتها التي استشعرتها مع كل كلمة من كلماتها، أمسك بقلبي خوفها وقلقها الذين شهدتهما بوضوح في الحركة السريعة لبؤبؤي عينيها، تملكني ذات شعورها بالتغرب المليء بالأحمال الثقيلة، توحدت المشاعر في لحظة والتقى خطا حياتنا المتوازيان الذين بديا من المستحيل أن يلتقيا، استحالة استتبت بفعل القدر، بفعل ضربة الحظ المجنونة التي وضعتني هنا في الكويت ووضعتها هناك في الفلبين. التقى الخطان في لحظة، مجرد امرأتين في متجر تستندان على خزانة زجاجية، واللتين، رغم كل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية، التقيتا في المشاعر والخواطر في أقل من نصف ساعة. مصباح عقلي الخامد نور في لحظة: من هنا يمكن لنا كنساء أن نفكك خيوط معضلاتنا المعقدة، من اتفاق ودود على قضايا مصيرية كلنا نستشعرها مهما اختلفت ظروف حيواتنا.
تبادلنا أرقام التلفونات، رجوتها أن تحادثني إن احتاجت مساعدة في غربتها أو تعرضت لضيقة أو مجرد احتاجت لفضفضة أو دردشة، وأكدت هي لي أنها ستتواصل عن قريب. بأصابعها الدقيقة سحبت “الماسك” لتغطي به نصف وجهها الجميل المرهق، وكأنها تعلن انتهاء اللحظة وعليه عودة كورونا بمخاطرها وفروقاتنا الحياتية بقسوتها. تحولت مباشرة لعاملة ملتزمة “ماذا تريدين أن تقتني مدام؟” اتسعت المسافة مجدداً، امتدت الخزانة الزجاجية بيننا بغلاظة، زادها غلظة وقسوة حافظة نقودي التي أخرجتها والبطاقة الائتمانية التي سحبتها لأدفع بها قيمة المشتريات. ضاعت اللحظة في لحظة، وظهرت الفروق نتوءاً قبيحة على مشهدنا، ليباعد بيننا بعنف وشراسة كيس مشترياتي وحافظة نقودي وبطاقتي الائتمانية التي تبدت كقطعة بلاستيكية عنصرية تشهد على تضارب أفكاري وأفعالي وعلى نفاق حالتي الحياتية التي أحيا معظمها خلف الخزانات الزجاجية العريضة. أنا دوماً على هذه الضفة، وهي دوماً على تلك الضفة، وبحسب النظرية الطبيعية المستندة على النظرية الداروينة، هذا قدر تحكمه البيولوجيا والبيئة والحظ لا يمكن أن يغيره شيء.
توادعنا وأنا أشك في أنها ستكلمني ولابد أنا تشككت تماماً في صدق كلماتي وبوحي، لو كنت أنا في مكانها لشككت. ما أن صعدت السيارة حتى خطر لي، لم أسألها عن اسمها في حين سجلت هي اسمي بجانب رقم تلفوني. لم يخطر لي أن أسألها عن اسمها، ترى ماذا يقول عني غياب هذا الخاطر؟ فكرت للحظة أن أعود للمحل فأسألها عن اسمها. بدأ المطر يتدحرج على زجاج سيارتي الساكنة في موقفها، حدثت نفسي أثنيها عن عزمها أن هذا المطر في لحظة سيشتد وأنا أعلم أنني أهرب من الموقف الذي يشتد على روحي وقلبي. أدرت السيارة وغادرت وأنا أراجع كل كلمة تبادلناها، كلها خليت من اسمها. بعد بكائها الصامت هل يحق لي أن أبكي أنا الآن؟ أعرف أن لا طيف حق لي في ذلك، بلعت الغصة، أدرت مسجلة سيارتي المتصلة “بلوتوثياً” بتلفوني ودندنت مع الصخب القادم منهما تاركته لنفسي باستسلام تام عنان الغرق في هذا الترف الغير مستحق. أكملت الطريق، بلا دموع.