بكتيريا
فيما يستوجب موقف وزير التربية الحازم تجاه ظاهرة الغش كل الاحترام والمساندة، فإن المشكلة برمتها تستدعي نظرة متعمقة لتلك الأسس التي يقوم عليها مجتمعنا، كيف نسير حيواتنا؟ ما العوامل المؤثرة فيها؟ ما مدى أخلاقية قراراتنا ومواقفنا؟ كيف تعمل ضمائرنا؟ ما أولوياتنا؟ تلك وغيرها من الأسئلة السارية في الاتجاه ذاته تلح علينا بحاجتها لأجوبة نفهم من خلالها تركيبة مجتمعنا، وبالتالي نوعية مشاكله والطرق المثلى لحلها.
أن يخرج أهالي الطلبة المتورطين بالغش معتذرين عن تقصيرهم كأولياء أمور ومعلنين استعدادهم للتعاون مع المدرسة لإصلاح الخلل ولضمان عدم تكرر الحادث مع الأبناء، فذاك موقف مبجل، أن يصمت هؤلاء ويتعاملوا مع أبنائهم بخصوصية تحفظ ماء الوجه وتحافظ على نفسية الطالب المتورط وسرية الحدث، فذاك موقف متوقع، أما أن يخرج هؤلاء الأهالي ليحتجوا على إجراءات الوزارة وليطالبوا الوزير أن يتصرف كأب، حسب ما ورد على لسان أحدهم في فيديو انتشر مؤخراً، فيغفر ويخفف العقوبة ويتفهم الحاجة للغش أحياناً بسبب ظروف نفسية أو أسرية، فذاك موقف مبهر في جرأته.
يقول أحدهم بحسب الفيديو المذكور إنه من غير المعقول لشخص حصل على الدكتوراه على سبيل المثال أن يتحصل على شهادته دون لجوئه للغش ولو مرة واحدة، وبالتالي فإن الغش مبرر بسبب الحاجة إليه، وبسبب ظروف الغشاش، وبسبب استحالة الارتقاء في السلم التعليمي بلا ممارسته ولو مرة واحدة، وعليه فإن ذلك يستدعي تفهماً ومراعاة، كتفهم الأب لابنه. يبدو هذا الطرح جريئا جداً، لا يختلف عموماً في جرأته عن بقية الطرح العام في الكويت مؤخراً، فعندما تصبح الفكرة العنصرية صراحة والكلمة الشتامة شجاعة والتعابير الكارهة خطاب حل للمشاكل، بكل تأكيد ستصبح المناداة بالتساهل والتسامح مع المشاكل الأخلاقية لأن هؤلاء “عيالنا” متوقعة ومتلائمة والنًفَس اللزج الحالي.
في مجتمع متدين محافظ كمجتمعنا، يحيا بين أيديولوجيتين متناقضتين كما يقول الدكتور علي الوردي في كتابه “وعاظ السلاطين” إحداها دينية تدعو للالتزام بأخلاقيات وفضائل روحانية، والأخرى قبلية “وهي أيديولوجية الالتزام العرقي التي كانت ديدن كل المجتمعات البشرية القديمة” تتعامل بالعنف وبالروح العنصرية والعرقية وتعلو فيها المصلحة والقدرة على البقاء على كل فضيلة أو مبدأ، تظهر كل التناقضات الإنسانية واضحة، تتبدى كل الأنانيات وتتجلى القدرة الإنسانية العجيبة على الانتقاء بشكل أكثر من واضح، بشكل فج سمج كريه، الشكل الخارجي واتخاذ الدين كهوية كلامية، كلها سهلة التنفيذ، لكن الالتزام بأقل قدر من الأخلاق التي تتطلبها الفضيلة وتلح عليها منظومة الأخلاق يصبح عبئاً ثقيلاً، خصوصاً حين يتعارض هذا الالتزام مع المصلحة الشخصية، لذلك ترى في مجتمعنا الشخص المحافظ في مظهره المتعصب في خطابه الديني، والذي، في الوقت ذاته، لا يتوانى عن استخراج طبية مزورة مثلاً، أو التوسط للقفز على حق الآخرين، أو استلام دعم عمالة بغير حق، أو الإهمال في عمله أو حتى التغيب التام عنه مع استلام راتبه كاملاً، وغيرها من المظاهر التي تستدعي نظرة متأملة في تلك التركيبة المعقدة للعقل الإنساني، ذاك الذي يحاسب هنا ويبرر هناك، يقسو هنا ويسمح ويفوت هناك، تركيبة تناقضية معقدة تخشى الله في عدد الركعات وصحة الوضوء واستمرارية الصيام، ولا تخشاه في ورقة مزورة أو واسطة تظلم آخر وتحرمه حقه أو تهاون يمرر كارثة أخلاقية مثل تلك التي بين أيدينا الآن.
لابد هنا أن نعترف أن هذه الأخطاء الأخلاقية الفادحة ما هي إلا نتاج أيديولوجية مجتمعية بسيطة تقول إن للمشاكل دوماً حلا وسائطيا، دائماً هناك قريب أو صديق يعرف أحداً، والذي بدوره يعرف آخر ليخرج المتورط من ورطته. وهكذا خلقنا سراديب من العلاقات الاجتماعية الرطبة المعقدة نقضي فيها معاملاتنا ونسير حاجاتنا ونسرق فرصنا من أفواه غيرنا. كلنا تعلمنا النزول لهذه السراديب، كلنا فعلنا في وقت أو آخر، حتى تأسس النهج وأصبح معتاداً مقبولاً، حتى إنه إن رفض أحدهم ممارسة هذا النهج مطالباً إيانا بإنجاز طلبنا في النور، أخذتنا الغضبة واتهمناه بالتقصير والأنانية وسوء الخلق. وهكذا كبر الصغار في هذه السراديب، وفهموا أن حلول مشاكلهم كلها في أروقتها، والآن تريد الوزارة أن تخرج بهم للعلن وتحملهم مسؤولية أفعالهم وتحاسبهم في النور؟ طبعاً سيهتفون ويصفقون خلف صاحب نظرية “يمكن هذا بني آدم… لعب بعقله الشيطان”، وطبعاً سيجد أغلبية بقية المجتمع أن التوجه مجحف صارم، فمن اعتاد رطوبة السراديب، تحرق أشعة الشمس جلده. كل الأمل في إصرار وزارة التربية على البقاء تحت الشمس، ستقتل البكتيريا وستطهر الجروح، وستتداوى النفوس ولو تألمت بعض الشيء، ابق ثابتاً سعادة الوزير.