بقعة الزيت
لا أعتقدها “كما تكونوا يولى عليكم” وإنما الصحيح هو “كما يولى عليكم تكونوا”. هكذا تتبدى مشكلتنا الحالية في أعمق وأخطر صورها. دع عنك الاختلاف في الرأي، ففي حين أن هذا الاختلاف في القضايا ذات الطابع الإنساني يفسد للود كل قضية، إلا أن الاختلاف مقدس في كل صوره والتنوع في الآراء رحمة مهما بلغت درجة طيش الاختلاف والمختلف ومهما تسبب من فقد للود، قضية اليوم ليست في الاختلاف ولكن في نغمة الكراهية والعنصرية في التعبير عنه.
أعرف أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست هي الحياة وإن كانت تعكس صورة قاتمة عنها، وأعرف أن الشر فيها يعم والخير صوته خفيض من خلالها، ولكن لا يزال ما يحدث في فضائها الهلامي مرعباً جداً من حيث كشفه لنفوس البشر وإظهاره للخبايا الدفينة الخطرة في قلوبهم. في كل مرة، وآخرها قبل أيام معدودة، أكتب عن موضوع الوافدين والكراهية الجديدة التي طفت على صفحة حياتنا الصافية كأنها بقعة زيت سامة، يأتي “موشح” من الردود لا يختلف كثيراً في “مقامه” عن ذاك الذي يتغنى به بعض نواب مجلس الأمة، ذات النغمة، ذات الطبقة الصوتية، ذات الكلمات وذات التعابير، هي الكراهية والعنصرية بشكليهما القميئين، كلها تطل من ردود الكثير من الناس في تطابق تام و”مقام” هؤلاء النواب، فكما قالت ميريل ستريب في خطابها الأخير في “الجولدن جلوبز” ما معناه أن وضع إنسان عنصري على أهم كرسي سياسي في أميركا يجعل لغة الكراهية مقبولة، ييسر للناس أن يكونوا أكثر جرأة في بث عنصرياتهم وتطرفهم تجاه الغير، فعندما يتكلم القادة والساسة والمشرعون بهذه اللغة، يصبح حديثهم ضوءاً أخضر لأفراد مجتمعهم أن يتكلموا بذات الصورة، وأن يكرهوا بذات الدرجة، وأن يتعنصروا بذات القدر.
وأنا أقرأ الردود من أمثال “اللي مو عاجبه يذلف ديرته” و”ذبحونا الأجانب ناهبين حقنا” ثم استخدام تعابير رخيصة وإشارات ساخرة قميئة للدلالة على جنسيات معينة، يتمثل لي هذا النائب وهذه النائبة، أرى تعابير وجوههم، أسمع نبرات أصواتهم، أكاد أراهم بعين ذاكرتي يشوحون بأياديهم، وأكاد أسمع بأذن هذه الذاكرة ألفاظهم وتعابيرهم ونبرات أصواتهم المحملة بِغِل، لا أدريه حقيقياً أم هو مجرد “تحبيش” سياسي يوضع على وجه خطاباتهم لتزيينها وإثارة شهوة المستمعين لالتهامها. أصبح الناس، بأكثرية مخيفة، صوراً عن هؤلاء النواب في تفاعلهم مع الموضوع، يتكلمون كما يتكلمون، يكرهون كما يكرهون، يتعنصرون كما يتعنصرون. هبط الحوار بمجمله، خفقت المعاني ورخصت التعابير وعدد وافر من الشعب يقلد نوابه ويغني على ليلاهم، ولربما هذا هو التأثير الأخطر للنائب السيئ، ليس تشريعه فقط ولكن الأخلاقيات التي يزرعها بظهوره المتكرر إعلامياً وبجرأته “المحصنة” في طرح كراهيته حتى ليعتقد المواطن العادي أنه محصن كذلك ليكره، ومحق كذلك “ليشرشح”، ومسموح كذلك ليغني مع نائبه في كورال العنصرية.
هناك مشكلة بكل تأكيد، وهناك ما يستحق الانتباه في رأي الطرف المقابل، دوماً هناك ما يستحق الانتباه في الرأي المضاد والرأي الذي نحمل، ولكن عندما ينحدر الخطاب ويتصور في كلمات معجونة بالكراهية ويتمثل في نبرة مبنية على حبال صوتية عنصرية، ساعتها لا يمكن العثور على منطق في الحديث ولا يمكن التفاعل معه. لنفكر جميعاً للحظة قبل أن نكتب كراهية يجب ألا تطبق على الصدور، ليس كل نواب الأمة مثالاً يحتذى، ليس كل من جلس على الكرسي الأخضر قلبه أخضر، هذا الغل المستعرض في وسائل التواصل الاجتماعي سينعكس شرراً علينا، سيدخل بيوتنا ويشرذم مجتمعنا المسالم. نسعى إلى حل المشكلة الاجتماعية نعم، لكن لا نخلق في مقابلها مشكلة إنسانية أخلاقية تدمر مجتمعنا في عمقه. لسنا مجبرين أن نكون كما يولى علينا، نحن أفضل، لابد أن نكون أفضل.