«بعدك انطفى العالم»
“وين أنت وشخبارك
يا مغرب عن ديارك
أنا كل يوم أكحل ناظري بدارك”
فقط الأمهات اللواتي أرسلن فلذات الأكباد ليلحقوا بمستقبلهم في الخارج يتفهمن حرقة كل كلمة تغنى بها عبدالكريم عبدالقادر، فقط هن يتذوقن مر هذا الرجاء “تعال ارجع إذا بعمري بقى باقي بشوفك فيه”.
كل لحظة أرى أمامي صوفي الصغيرة، تجوب شوارع الغربة وحدها، شيء ما يتحجر في داخلي، وخز ينتشر في ثنايا قلبي، أوبخ نفسي: ما الذي فعلته؟ كيف أرسلت هذه الصغيرة وحدها في هذه الدنيا الكبيرة؟ لماذا يكبر الصغار، لماذا يهجرون العش ويفارقون الحضن وما الذي يمكن أن يملأ هذا الفراغ الذي يتركون؟
خابرتني صغيرتي قبل أيام قلقة، أين أنا؟ ماذا أفعل؟ أأشارك فيما يحدث؟ متى سأعقل؟ جاوبتها بضحكاتي وسألتها بدوري، أين هي؟ ماذا تفعل؟ فإذا بها غارقة في النشاطات البيئية، وتعد العدة لتخبرني ووالدها برحلة خيرية إلى جنوب إفريقيا، من أجل نشر الثقافة البيئية ومساعدة الأطفال، تترجى موافقتنا. “أنت مجنونة يا صغيرتي… مو أكثر منك يا أمي… لن أعرضك للخطر… اعتقدت أن الخطر يصغر أمام المبدأ… لا تستخدمي كلامي ضدي وتخرجينه من سياقه… بل هذا هو تحديداً سياقه… المبدأ شيء والواقع شيء آخر… صحيح، متأكدة يا ماما؟”.
توقفت أنفاسي، كيف قلت ما قلت؟ ألست أنا من يسوّق لفكرة ضرورة فرض المبدأ على الواقع؟ ها أنا الآن أستخدم الرأي المضاد فقط لأحقق مرادي وأخفي صغيرتي عن مخاطر العالم. تصلب صوت الصغيرة على الهاتف مطالباً بتبرير، وكيف أبرر أنانية أمومتي واستغراق محبتي واندفاع مشاعري بغير المبدأ اللعين الذي طالما طوحته أمام عيون الأبناء. لم أكن أدري أن الصغار يصغون بإمعان، لم أتخيل أن تنقلب كلماتي ضدي في يوم. تكلمت صغيرتي كثيراً، قالت أشياء وبررت وفندت وأكدت سلامة الرحلة و… و…، وأنا لا أسمع سوى صوتها الرقيق يناديني لأول مرة، الآن أسمع أول أغنية أحبتها، أول سطور من قصتها المفضلة للدكتور سوس، أراها تخطو أول خطوة، الآن هي في فستان المدرسة لأول مرة، كل “أول” الأشياء حضرتني ولاتزال صوفي تثابر على الطرف الآخر من الهاتف لتحقق مبتغاها. بهدوء قلت “اذهبي يا حبيبتي، صحيح ماما؟ أنت موافقة؟ نعم أنا موافقة”.
لا أدري إن كان القرار يدل على أن المبدأ أهم حتى من ابنتي، فعقلي لا يمنطق القصة الآن، هناك فقط فيض من مشاعر. حدثتها عن المقاطعة، وبطبيعتها الثورية رحبت بقراري، تحدثنا كثيراً عن نشاطاتنا الحالية وعما نعتقده قادماً في المستقبل. ما ان وقف المبدأ بيننا حتى تساقطت مخاوفها من اعتراضاتي فانطلقت تخبرني عن كل الأحلام والمخططات والآمال. “سأسجل اليوم في جمعية هنا للتبرع بالأعضاء” أخبرتني، فأسررت في نفسي “ولكنك ستعيشين طويلاً وترين تبرعي أنا أولاً”، بقيت تقول وهي لا تدري انها تستخدمني ضدي، انطلقت آمنة بعد أن دست المبادئ في فمي، تصارحنا وتفاهمنا أن العمر منذور، ودون هذا النذر لا يصبح للحياة طعم.
“انتبهي لنفسك يا حبيبتي. وأنت كذلك أرجوك” فرقنا الهاتف بهاتين الجملتين ونحن ندري أنهما لا تغنيان عن جوع. هي جمل الفقراء لكنها كل ما نملك الآن. تركنا بعضنا في عهدة المبدأ، كل منّا مضطرة إلى أن تقبل بعمل الأخرى حتى تستطيع أن تستمر في عملها. علمتني الصغيرة درساً قاسياً، لكنه جاء في وقته، في وقت تكالبت عليّ الحجج المنطقية والعقلانية بأن مبدئي سيودي بي إلى حيث لا أعلم، فإذا بالصغيرة تعيدني إلى رحابه، إلى أحلامه وآماله وجماله وصفائه، سأختاره وأبقى أختاره مهما غلا ثمنه.
كلماتك أضاءت العالم يا ابنتي، فابقي تذكرينني، حتى لا أنسى وتأخذني أنانيتي.