بصوت خفيض
منذ أيام وأنا أتحدث مع بعض المؤسسات الخارجية المهتمة بالشؤون الحقوقية، بناء على طلب منهم، حول التعددية الجندرية في عالمنا العربي الشرق أوسطي، الخليجي تحديداً. يراودني شعور طاغ بالتخاذل والتقصير حين أتحاور مع ناشطي الخارج حول المواضيع الإنسانية عموماً وحول هذا الموضوع خصوصاً والذي يشكل واحدا من أصعب القضايا الإنسانية الحقوقية في عالمنا العربي الإسلامي.
وللمؤسسات الإنسانية الخارجية سلطة مدنية متسعة وتأثير قوي على العملية التشريعية في بلدانهم، في حين أن المؤسسات الإنسانية العربية لا تملك حتى سلطة حماية نفسها، كما وأن الناشطين الحقوقيين العرب عرضة دائماً “للتقريع” شديد اللهجة الذي قد يصل بهم لمخاطر لا تحمد عقباها. وهكذا يعيش هؤلاء النشطاء حالة من التوجل والقلق المستمرين على مصالحهم وحرياتهم وأحياناً حيواتهم وذلك في حيز التعامل مع القضايا الإنسانية العلنية والرائجة شعبياً نسبياً في المجتمع، فكيف الحال مع القضايا الإنسانية الحساسة، غير المقبولة مجتمعياً، غير المفهومة منطقياً، أو تلك التي تتجه عكس سير عنصريات الناس وأفكارهم التمييزية الرائجة؟
في الصراع النسوي العربي، والخليجي تحديداً، الكثير من المعاناة والمخاطر، تبدأ من التشهير بالعاملات في هذا المجال والتعريض بهن ووضعهن موضع السخرية في أفضل الظروف والاتهام الفاحش في أسوئها، وصولاً إلى إيقاع أضرار حقيقية وعميقة في حيوات ومصائر ومستقبل الناشطات، ولا أقوى دليلاً على ذلك من أعداد النساء اللواتي يقبعن في السجون حالياً في عالمنا العربي عموماً والخليجي تحديداً. تتصاعد درجة الخطورة حين يتم التعامل مع القضايا الانتمائية والأصولية والعرقية، لتصبح حالة انعدام الجنسية على سبيل المثال واحدة من أعقد القضايا الإنسانية واقعاً وأصعبها وأخطرها عملاً مرة أخرى في عالمنا العربي عموماً والخليجي تحديداً. ثم تصل الخطورة إلى قمتها في التعامل مع القضايا الجندرية، تلك التي يشكل مجرد الخوض فيها خطورة عظيمة جسدية ونفسية وسمعاتية. في مثل هذه القضايا الجندرية يقف الناشطين وحيدين معزولين، بل ومنبوذين أمام ليس فقط قوانين دولهم ولا تسلط حكوماتهم ولكن كذلك أمام صوت الشارع الشعبي الذي يرفضهم وينبذهم بل ويكفرهم ويعدهم بسوء المنقلب والمصير. هنا يجتمع الشارع بحكومته لأول مرة اتفاقاً على نبذ وكراهية هذا النوع من العمل الإنساني وأصحابه، وليصبح الناشطين ريش خفيف في مهب الريح، لا يتعاطف معهم أحد ولا يسأل عنهم، في حال اختفوا، إنسان.
ولربما أكثر ما يساهم في خلق هذه الكراهية التي تلحقها الكثير من المخاطر هي حقيقة جهل الشارع العام تماماً بمعنى التعدد الجندري وبأبعاده الفسيولوجية العلمية. تذهب الأبحاث اليوم للتشكيك التام في التقسيم الجندري التقليدي الذي ينظم البشرية في مجموعتين: ذكور وإناث، وذلك إلى حد الاعتقاد أنه لربما يشكل كل إنسان “مذهب جندري” مميز وذلك بحكم الاختلافات الكثيرة في تركيبة وتكوين أجسادنا البشرية. في بريطانيا اليوم قائمة بأكثر من مئة تصنيف جندري والتي من خلالها يتحرر الناس من القوالب المفروضة عليهم بيولوجياً لحظة الولادة، ليتبنوا تصنيفات أخرى تكون أكثر تواؤماً مع حالتهم الفيزيائية والهرمونية وكذلك حالتهم النفسية التي عادة ما تعتبر المؤشر الأهم في “التبويب” الجندري. هناك طبعاً في هذه القائمة تصنيفات عجيبة غريبة قد تبدو غير منطقية أو حتى فكاهية، إلا أن مجرد تحقق مفهوم الاتساع هذا والتحرير للإرادة الشخصية ذاك واللذين يتيحان لكل إنسان أن يجد الإطار الذي يلائمه ليتعرف على نفسه من خلاله هو بحد ذاته إنجاز غاية في الإبداع والإبهار.
في عالمنا العربي لا يعرف العامة مثلاً الفرق بين مثلي الجنس ومتحول الجنس ومتحول المظهر ومعاكس المظهر وغيرها من التصنيفات التي ترتكز على تعريفات علمية أو فلسفية اجتماعية. هنا أنا لا أتحدث عن قبولها أو الاعتراف بها، أنا أتحدث فقط عن فكرة تمييزها: فهم اختلافات هذه التصنيفات، معرفة معايير كل تصنيف، وإدراك مظاهر وتبعات هذه التصنيفات. فأن يكون للعامة رأي ورد فعل حول التصنيفات الجندرية يصل لحد تهديد حيوات المختلفين جندرياً أو عزلهم أو التمييز ضدهم أو التشريع عقاباً لهم، أن تكون هناك تبعات بهذه الخطورة على المختلفين جندرياً، ألا يتطلب ذلك على الأقل فهم الحالات التي تتخذ تجاهها مثل هذه المواقف؟ هل تَعَرَّف العامة ولو بشكل مبسط على تاريخ التعددية الجندرية في مسار التاريخ الأكبر للإنسانية، بل ولبقية الكائنات الحية؟ هل يعلمون حقيقة وجود هذا التعدد حتى ضمن أكثر الأمم تديناً وصرامة ومنها الإمبراطورية الإسلامية وهي في أوجها؟ هذا تأريخاً نحتاج لفهمه، وذاك علم نحتاج للتعرف عليه حتى يستطيع الشارع أن يكون رأياً، وحتى يستطيع المشرع أن يسن قوانيناً آمنة للناس، وحتى يتسنى للحكومات حماية كل أفرادها التقليديين والمغايرين جندرياً.
ولربما سينال هذا المقال وصاحبته وناشريه ما ينالهم جميعاً، ذلك أن الشارع ليس فقط مغيب عن الجانب النفسي والعلمي والحقوقي للقضية، ولكنه كذلك محكوم بقراءات دينية تجعل التعامل مع هذا الموضوع ضرب من الكفر ومصدر للعنة لا راد لها. يوماً ما، لا شك لدي، ستتغير القراءات والتفسيرات الدينية حين يأتي العلم بالقول الفصل الذي يبين ويوضح ويفسر تماماً التنوعات الجندرية البشرية، وها هي القراءات المسيحية تسرع حثيثاً نحو الفهم والتعامل والقبول. ولكن إلى أن يحدث ذلك، علينا أن نعمل كثيراً لحماية المختلفين الذين يعيشون بيننا وأن نعمل “بصوت خفيض” حماية لأنفسنا ولهم وهذا المطلب هو أكثر ما يثير الفزع ويبث شعور التخاذل في النفس.