بصراحة… خفت
يقول سعيد ناشيد في مقاله «العلمانية مطلب أنطولوجي»:
لا يمكنني أن أتّفق مع من يختزلون العلمانية إلى مجرّد تدبير تنظيميّ وإجراء قانوني للفصل بين الدين والسياسة، أو بين الدين والدولة، أو بين الدين والمدرسة، أو بين الدين والمدينة برمّتها.
بل أعتبر أنّ أزمة العلمانية في الغرب ناجمة عن اختزال العلمانية في مجرّد جدار افتراضيّ يفصل بين الدين والسياسة، بحيث كان الأمر بمثابة تسوية قائمة على الفصل الميداني وعلى تحديد خطوط تماسّ تختلف أشكالها من بلد غربي لآخر.
أحياناً يحتفظ الدين بمساحات واسعة داخل الدولة، كما هو حال الدانمارك حيث يشترط الدستور انتماء الملك إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية (1)، أو كما هو حال النرويج حيث يشترط الدستور، فضلاً عن الملك، انتماء أزيد من نصف الوزراء إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية (2). وقد يحتفظ الدين بمواقع محدّدة داخل المدرسة، كما هي برامج تدريس الموادّ الدينية، التي قد تكون إما إجبارية كما هو الحال في إيطاليا، أو اختيارية مثلما هو الحال في بلجيكا وألمانيا. وقد تظلّ خطوط التماسّ بين الدين والسياسة متحركة تبعاً للمزاج العام للناخبين كما هو الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية.
لا أعتقد أنّ أزمة العلمانية في الغرب مجرّد عوارض هامشية على طريق ذي اتجاه واحد نحو «المساء الكبير» وفق التعبير الأوروبي، أو «الفجر الجديد» و«الصباح القريب» وفق التعبير العربي، وإنما أزمة العلمانية تعبير عن تعثر الإصلاح الديني الأوروبي وإجهاضه في المنتصف. (50-51)
لربما تعكس الحالة الأمريكية المثال الأقرب لحالتنا العربية، إلا أن كل الأمثلة المساقة في المقال تدل على أن العلمانية متباينة التطبيق تبعاً لـ«النوعية» الاجتماعية للأفراد وإلى مدى القبول المجتمعي لـ«نقاء» تواجدها. من يدعي، على سبيل المثال، أن تطبيق العلمانية في الدول العربية سيفتح باب التحرر الشخصي وسيدفع بالناس للترنح سكارى في الشوارع فهو بلا شك مضلل، وفي أفضل الأحوال ساذج، لا يدرك أولاً أن العلمانية ستتشكل كما الماء الذي يوضع في قالب لتناسب المتعايشين معها، كما لا يدرك أن نتائجها ستتبلور في القالب ذاته لتصبح محكومة بالعادات والتقاليد والمقبول والمرفوض في هذا المجتمع، ما يجعله شبه مستحيل أن تكون للعلمانية النتائج ذاتها في المجتمعات المتباينة. العلمانية لا تأتي في مقاس واحد يناسب الجميع، العلمانية تفصيل، رغم أنها تأتي من بترون واحد، تأتي لتنزلق على الجسد المجتمعي بما يناسبه ويتجاوب مع تضاريسه العاداتية والتقاليدية.
يذهب بقية المقال المهم لناشيد لشرح الكيفية التي أٌجهض بها الإصلاح الديني من خلال مهاجمة التأسيس الأنطولوجي للعلمانية الذي «تعرض في الغرب إلى عملية ضخمة وغير مسبوقة من التجريم والتأثيم. فسرعان ما وجهت أصابع الاتهام إلى ما اصطلح عليه سلباً بـ «عبادة العقل» بدعوى أنها قادت إلى ظهور مآسي القرن العشرين المتمثلة في صعود الأيديولوجيات الشمولية والأنظمة الكليانية، والحربين العالميتين، والمحرقة، والاستعمار، فضلاً عن تخريب البيئة وتهديد السلام العالمي» (52-53). يحاول ناشيد، من خلال الاستدلال بالأرقام والشواهد التاريخية، تبرئة المنهجية العقلانية من هذا الادعاء والتأكيد، كما يذكر في نهاية مقاله، على أنه «لا يكفي أن نبعد الدين أو نستبعده جزئياً أو كلياً من الدولة والمدرسة حتى نضمن عدم عودته إلى السياسة. لا بدّ من مجهود يرمي إلى إعادة بناء صورة الدين، بل كافة الأديان…»(55). ينتهي ناشيد بكلمات هي «أخطر» من أن توضع في مقال للأسف، خصوصاً إذا كنت تعيش في العالم العربي، حيث يشير ناشيد إلى سمو الخالق عن التفاصيل الاجتماعية والسياسية التي تنشغل عادة القراءات الدينية بها، لكنه يفعل ذلك بأسلوب لربما يغضب القارئ المسلم الغاضب أصلاً ويستثير القوانين الحاضرة للانقضاض بتهم الازدراء والإساءة.
إن محاولة اقتباسي لآخر كلمات من مقال ناشيد، ثم ترددي، ثم إزالتها من المقال والاستعاضة عنها بإشارة تلميحية من بعيد، وهو نوع من الرقابة الذاتية يمارسها معظم الكتاب على أنفسهم، هو إشارة واضحة إلى المشكلة التي تأكل «إصلاحنا» من الداخل، على الفشل الذريع الذي يلاحق أي محاولة تفعيل للإصلاحين المدني والديني، القائمة ليس فقط على الفصل بين هذين الحيزين، كما يقول ناشيد، ولكن كذلك على إعادة البناء الجذرية للحيز الديني بما يزيل معها كل خوف من التفكير أو الإعلان عنه، خصوصاً ذاك الذي يتم خارج الصندوق التراثي القديم. إن الإصلاح لا يتطلب تخلياً تاماً عن الفحوى الديني في المجتمع المدني، ولا حتى في هذا الجزء من المجتمع المدني الذي لا يفترض أن يتغلغله الدين في رأيي كما المدرسة، إنما الإصلاح يتطلب الفصل الواعي المصحوب بإعادة القراءة الجذرية لكثير من المفاهيم الدينية ولدور «القداسة» في حياتنا المدنية اليومية. هل يمكن لنا أن نتحرر من السلطة «الإكليروسية» في كل الأديان حد تقرير أمور مدنية مثل الملبس والإرث والزواج وغيرها بما يناسب زمننا وتطور حياتنا ومفاهيمنا، دون أن نحدث انقلاباً على الدين؟ هل يمكن للدين كمنظومة فكرية أن تتحرر من التزامها بدقائق الأمور تاركة هذه الأمور الصغيرة للبشر تحريراً لهم وتحميلاً إياهم لنتائج قراراتهم لتتجه لما هو أعظم وأسمى؟
مصدر المقال: كتاب «قلق في العقيدة» لسعيد ناشيد، دار الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت