بداية ونهاية*
كوميدية جداً فكرة توديع سنة واستقبال سنة، فالزمن، هذا المفهوم المبهم الخيالي، غير موجود حقيقة كبعد في حيواتنا سوى في مخيلاتنا. في هذا الكون الشاسع الذي يتضاءل فيه وجودنا حد العدم، فنمنمتنا تجعلنا غير مرئيين، ولحظية ظهورنا واختفائنا تجعلنا كأن لم نكن، في هذا الكون بظروفه الوجودية الغريبة تلك لا يوجد زمن، لا توجد بداية ونهاية، لا توجد سوى اللحظة وكأنها بقعة ضوء ضئيلة، كما عبر عنها العالم ريتشارد دوكينز، تمر فوق رؤوسنا أو نمر نحن أسفلها، ثم تختفي ونختفي.
لكننا كبشر نحتاج لأطر نحيا بها ومن خلالها، نحتاج لبدايات ونهايات، فصنعنا بداية سنة ونهايتها، فيم الكون الصارم البارد يتجاهلها ويتجاهلنا ويستمر في وجوده الأزلي العدمي، غير آبه باحتياجاتنا المسكينة لقوالب وهمية نصنع من خلالها ذلك المعنى المرتجى للحياة. وفي أحد هذه القوالب المخترعة نضع “سنة الكورونا”، وهي سنة لن يميزها داؤها الغريب اللعين، فالأمراض والأوبئة ليست بجديدة على التاريخ البشري وكورونا هي ليست أولها بالتأكيد ولن تكون آخرها، بل هي ليست أشدها ولا أكثرها انتشاراً. لن تكون سنة كورونا مميزة سوى عند من عاصرها، وهي لن تكون مؤثرة بسبب الداء الذي مرت به أيامها تحديداً، وإنما بسبب الأحداث التي وقعت في هذه الأيام والتي صنعناها نحن كرد فعل على هذا الوباء الغريب.
وقعت أحداث عالمية “خارقة” بالتأكيد لم نكن نتصور مشاهدتها سوى في أفلام هوليوود، لربما ليس أقلها خلو مدن كوزموبوليتانية كاملة من البشر في مشهد يوحي بنهاية العالم، إلا أن هذا الخلو للشوارع والمدن ليس بجديد في الواقع في التاريخ البشري، فسبق أن خلت المدن والطرقات من البشر إبان المرور بأوبئة سابقة، بل ولقد مرت فترات انخفض فيها عدد البشرية، في أزمنة غابرة وفي سنوات أكثر قرباً، لحد التهديد بانقراض جنسنا. كل المختلف هذه المرة أن الإعلام وتواصله العصابي الملح أرانا كل شيء، ألجمنا بالمشاهد المرعبة وواجهنا بصور حقيقية ممكنة لفنائنا. كلنا عملنا “بروفة” لنهاية العالم وعشنا فزعها وساءلنا أنفسنا لأول مرة، ماذا لو لم تعد الحياة لسابق عهدها، ماذا لو بدأ الفناء الحقيقي يزحف بيننا وتحولنا من بشر إلى وحوش تنتهج منهجية “أنا ومن بعدي الطوفان؟” ماذا لو كان هناك قطار واحد للناجين، سفينة فضائية واحدة، سرداب سري واحد، وما استطعنا الوصول إليه؟ ماذا لو شهدنا وشاهدنا نهاية الحياة والكوكب؟
شيء من ذلك لم يحدث. الكوكب دوماً يتعافى، وجنسنا سيستمر إلى حين. ما تأثر حقيقة هو نفوس البشر الذين عاشوا هذه الأزمة، وهو تأثر حقيقة غير مهم أو قاطع في مجريات الحياة والكون. بعد أقل من مئة سنة، كل من عاشوا هذه الأزمة سيختفون بكل تأثيراتهم وتأثراتهم، ولن يبقى منا سوى قصص غريبة وصور مرعبة تحكي قصة زمن وجيل مروا بأزمة ستصورها كتب التاريخ وكأنها قصص جمعية، وكأن تجاربنا كلها متشابهة، وكأن مشاعرنا كلها يمكن وضعها في كيس واحد، سيبهتنا التاريخ ويساوي بيننا في سرده ويتجاهل نمنمات حياتنا المختلفة وتجاربنا المتباينة والتأثيرات الخاصة التي وقعت على حياة كل فرد منا. ستُسرد تجربتنا كلها في سطر، وستختفي، بشكل مؤلم مهين، كل آلمنا في كلمتين: كان هناك داء، ثم كان هناك لقاح، ثم رغم كل ما فعل ذلك الجيل ليصارعوا الموت، فنوا كلهم بعد حين.
كيف إذن أجعل هذه التجربة خاصة بي؟ كيف أكتب نفسي في هذه السنة؟ جربت الانعزال التام لشهور طويلة، حُرِمت لقاء أحبة ما كنت أتصور أن يفرقني عنهم شيء، طبخت كثيراً واكتشفت عالم الخبيز الذي تجلى لي عالم تنفيسي علاجي، أصبت بالكورونا، ضاقت دائرتي أكثر ولم أستطع أن ألمس زوجي وأبنائي لأسابيع، بكيت، إبان المرض، يوم حاولت أمد يدي لمناولة زوجي شيئاً وما استطعت، تصورت أن شللاً أصاب قدراتي على التواصل وأنني لن أتمكن من العودة لحياتي الطبيعية، شفيت من الكورونا، عادت الحياة تدريجياً لطبيعتها وعدت لطبيعتي التي تصورت أنها تغيرت للأبد، تواصلت وطلبتي إلكترونياً فاكتشفت عني وعنهم أشياء، ليأتي الخميس الماضي منهياً هذه السنة الغريبة ومنتهياً بالنسبة لي شخصياً بطلبتي في إحدى المحاضرات وقد رسموا لوحات تهنئة رائعة بالسنة الجديدة لترفعها كل من مكانها أمام كاميرتها ولتظهر لي على شاشة الكمبيوتر فور بدأ المحاضرة، فما أن فتحت “تايمز” لألقاهم في موعد المحاضرة المعتاد، حتى تجلت لي التهاني متناثرة من “مربعات وجودهم” على البرنامج. كانت لفتة بسيطة خلابة مؤثرة، كانت أجمل “مشهد أخير” أغلق به هذه السنة الغريبة.
تألمت في هذه السنة كما لم أتألم من قبل وتعلمت كما لم أتعلم من قبل. ضرب قلبي أحبة ودار أذى لم أتصور أن لمحب القدرة على إيقاعه، لكننا البشر غريبين، نعكس آلامنا على الآخرين، أحياناً نؤذيهم بقسوة وعنف، وكأننا نود نقل أوجاعنا لهم للتخلص منها، تماماً كما يفعل بعض البشر في محاولتهم لنقل أمراض أجسادهم لبشر آخرين معتقدين أنهم إذا نقلوا المرض لشخص آخر سيتخلص جسدهم منه. انغلق قلبي على جرح لن يندمل وألم لن يشفى، لكن الزمن وتفاصيله المعتادة الدقيقة، رنة منبهي صباح كل يوم، ستارة غرفة النوم تنطوي لتوسع للنور مكاناً، صوت أجهزة نجارة زوجي وهو يعملها تقطيعا في الخشب، مناوشات أبنائي حول “رجعيتي” أنا ووالدهم وفقر “ليبراليتنا” المتأثرة بشرقيتنا، خروجات صغيرة يومية، صوت والدي وهو يقول “بابا، لا تحملي الهم، إنسي” لربما كلها كافية لأن تخفف وتجعل الحياة تستمر. أنسى؟ لا أدري، كل ما أعرفه أن الزمن سينسى، سينساني بكل آلامي وأحزاني وآمالي وتطلعاتي، سيقلب صفحة جيلي ليذكره كله في سطر ضئيل. ذات زمن سأختفي أنا من وعيي ومن الأرض ومن الزمن ومن الوجود، وستستريح النفس وتختفي الآلام، وسأصبح جزء غير معرف، غير مهم، غير ظاهر مطلقاً في سردية عظمى تشملني وجيلي كله في سطور قليلة في كتاب تاريخ لن يقرأه الكثيرون.
ستدفن أحزاننا جميعاً وقريباً في بضع كلمات، سيذهب وعينا للعدم، وستنطوي آلامنا مع أجسادنا تحت التراب، تهدئني هذه الفكرة المظلمة، تريح عيناي عتمتها، ويُسَكِّن قلبي سكونها الأبدي التام.
مقال لا يليق بما يجب أن يكون بداية متفائلة بنهاية أزمة وبداية مرحلة، إلا أن هذه المرحلة في عمق وعيي لا تبدو ذات بدايات أو نهايات، هي خط مستمر عصابي لا زمن له ولا بداية ولا نهاية، فقط بقعة ضوء خافتة منمنمة، تسلط لحظياً على وجودنا المسكين وتختفي، فهل تستحق هذه البقعة كل هذه الضجة؟ ربما هي تستحق، لأنها كل ما نملك..
كل عام والجميع بخير..
*العنوان إشارة لرائعة نجيب محفوظ “بداية ونهاية”
ابتهال الخطيب