بداية ونهاية
في مقال له في جريدة “الراي” يوم الخميس الماضي بعنوان “مع ابتهال الخطيب ودون كيخوته” كتب د. علي العنزي في الجزء الأول من مقاله مسبغاً عليّ من كرم وصفه ما قلدني سيفاً ثقُل على كفي التي لم تعتد سوى الأقلام والكتب، ليأتي في الجزء الثاني ليواجهني بأسباب “طراوة” هذه الكف التي تقف شاهداً على يسر ونعومة حياتي التي كانت، وقد تكون مازالت، منفصلة عن الواقع. واجهني الدكتور بما ثقل على حياتي كلها، بما حاولت أن أتملص منه كأنه نسب معيب، بهذا اليسر الحياتي والثراء الثقافي المتوافرين لي واللذان كثيراً ما سألت نفسي والقدر عن أحقيتي فيهما، عن سبب اختيار الحظ لي لأكون من أكون.
ووالدي رجل عصامي، بنى نفسه بنفسه مستمداً قوته من العسر الذي واجهه في بداية الطريق، لذا، وبالرغم من الإغراق في الدلال والأمان اللذين كانا عنوان طفولتي، لم يتوان والدي عن سعيه الحثيث لربطي بالواقع، فكنا عندما نزور مصر مثلاً نسكن الهيلتون، ولكن أول زياراتنا تكون لمناطق الدويقة والمقطم والمقابر التي يمشينا والدي في شوارعها على أرجلنا، لتصل لنا فكرة لا تفيها الكلمات: هنا حياة غير حياتكم، وأقدار غير أقداركم. بعدها يأخذنا والدي لدار المعارف والمدبولي، نقضي نصف النهار هناك، أكاد أشتمّ رائحة الكتب وأنا أكتب كلماتي الآن، نشتري ونتناقش ونتصارع، ترى، هل أخذتني هذه الكتب اقتراباً من الدويقة أم أبعدتني مسافات أكثر عنها؟ هل عزلني سكن الهيلتون عن معاناة الناس أم قربتني المفارقة الصاخبة بين سكناي والمقابر منها؟
يتساءل الدكتور علي: “هل يذنب المثقف حينما يسرف بالقراءة، تماما كما أذنب دون كيخوته بإسرافه بالقراءة والحلم!
هل كتب على المثقف أن يكتشف دوماً عدم تلاؤم الحلم مع الواقع… وكم هو الواقع شرس… كما اكتشف دون كيخوته ذلك في آخر الرواية؟!
هل المثقف محكوم بأن تهشمه طواحين الهواء وتوصله حد القنوط؟! مفارقة جلية لا يملك المرء أن يغفلها…
هكذا هو المثقف… يقرأ… ويقرأ… ثم يقرر أن يهجر إقطاعيته، ويتخطى المستنقع الذي غرق الواقع في وحله، من أجل إعادة تشكيل العالم على هواه، لكنه لا يلبث أن يدرك… كم هي هلامية رؤاه!”.
عند كلمات الدكتور أقف في مواجهة مع النفس، فبالرغم من محاولات والدي الحثيثة لكشف الوجه الآخر للحياة، فإن كتب المدبولي وعشاءات النيل وغرف الهيلتون خففت وطأة زيارات الدويقة، حولتها إلى زيارات تراثية، لواقع أرثيه ولا أتصل به، إنه ذنبي وذنب كل مثقف أخذته كتبه في رحلة “هلامية” تفصله عن الواقع وتفصل له آخر يتكيف وما قرأ فيها، رحلة تزداد انفصالاً عن ذلك الواقع بيسر الحياة، فالثقافة في البيوت الميسورة كالطرق المبتورة، تأخذك لفة في مناحي الحياة… ثم تعيدك من حيث بدأت.
ولكن هل “الهلامية” هي كل نتاج معاشرة الكتب؟ يقول الدكتور علي العنزي في ختام مقاله “يبدو أن أوان الاستفاقة من أحلام اليقظة قد آن… ولكن رباه… كم هي مُرة هذه الاستفاقة!”، وهنا أتساءل: هل يمكن للحظة الاستفاقة أن تبقي على الحلم الجميل بالعدل والإنسانية والرحمة؟ هل يمكن لإيماننا بالمعجزة الأكبر في هذه الدنيا، معجزة الإنسان وإرادته وتأصل الخير الفطري في نفسه أن يحول لحظة الاستفاقة الى مشروع إنساني ناجح؟
في سن الثانية عشرة قرأت لبدر شاكر السياب من كتاب تحليلي لحسن توفيق أهداه لي والدي كأول كتاب شعر أمتلكه في مكتبتي الصغيرة:
أسمع في كركوك والموصل
أسمع في كركوك هذا النداء
هذا حصاد الموسم المقبل
نار وأشلاء ومجرى دماء
لم أكن أعرف ما هما كركوك والموصل ولم حصادهما يغرقه الدم، ولم أشأ أن أسأل خوفاً من جواب لا يحتمله قلبي الصغير، كرهت الكتاب وحنقت على والدي إهدائي إياه، لكنني سرعان ما فهمت الرسالة خلف هذا الإهداء القاسي، فهمت أن وقت المواجهة حان، فهمت أن الكتب تختارني ولا أختارها، وأنها ملك صاحبها فإما أن تغرقه في أحلامه وإما أن توقظه على آلامه.
لا يزال لحد اليوم، يقف كتاب بدر شاكر السياب بشموخه اللعين على رف مكتبتي، يتحداني، لكنني أتركه كمعركة أخيرة، عندما يقصرني العمر على المعارك الأدبية فحسب، أما اليوم فأنا أوفر طاقتي لأجيب عن تساؤل الدكتور علي العنزي حول مصير رحلتي: “أهي بداية الرحلة الضارية بالنسبة إليها أم هي النهاية؟”.
شكراً د. علي، سؤال الاستفاقة جرأني ففتحت كتاب السياب بعد زمن.
* عنوان لرواية أديب العالم العربي نجيب محفوظ