بحر العباءات
تركت وفاة عميد عائلة والدتي، أخوها الأكبر، أثراً عميقاً في نفسي على الرغم من أنني لم أكن مقربة كثيراً من خالي رحمه الله، كما أن هذا ليس أول فقد «من الدرجة القريبة» يمر على حياتي؛ فقبلها فقدت طاقم الأجداد والجدات رحمهم الله، والبعض العزيز من الأقارب والأصدقاء والمعارف الذين تركوا أثراً وفراغاً في الحياة، لربما كان آخرهم الدكتور شفيق الغبرا الذي ما زال فقده عصياً على التقبل التام. وفاة الدكتور شفيق تشكلت سكيناً حادة في الروح، ما زلت أصارع آثارها، وفاة خالي تبدت وخزاً منبهاً في الخاصرة، ما زلت أتفكر في مشهدها.
حين وصلنا خبر وفاة خالي المتوقع، أسرعت بوالدتي إلى المستشفى لنكون في وداعه في لحظة المغادرة ولنشكل حلقة الدعم المطلوبة للأحباء الذين خلفهم من بعده. في ممر المستشفى وقفت أستشعر رهبة وحزن الموقف، أراقب الوجوه الباهتة الذابلة والأعين الدامعة والرؤوس المائل بعضها إلى بعض، أحياناً للمواساة وأحايين للاتفاق على الخطوات القادمة والترتيبات المطلوبة التي لن تنتظر حزناً ولن تمهل الفاقدين زمناً ليتمالكوا أنفسهم ويسيطروا على مشاعر فقدهم. تفكرت كثيراً في قوة وسيطرة العادات والتقاليد القادرة فعلياً على تأجيل الحزن وتعبيد الطريق للواجب المطلوب ولما يفرضه ويفترضه المجتمع إكراماً للمتوفى ولسيرته.
في صباح اليوم التالي توجهنا جميعاً للمقبرة، فنساء المذهب الشيعي يشاركن في طقوس العزاء كلها من أولها لآخرها، فكنا ونحن ملتحفات العباءات وأغطية الرأس السوداء كأننا بحر كبير حل به ظلام الليل. ابتسمت لنفسي فور الوصول متذكرة مقاومتي السابقة لتفاصيل هذه الطقوس، ففي ذلك اليوم لم أجد لدي الطاقة لممارسة هذا العناد السابق، لم يبد أن هناك معنى مستحق لهذا التحدي في ظل الفقد والألم. وتساءلت، ما الذي تغير، تراني فقدت ما كان لي من الطاقة على التحدي أم أنني اكتسبت المزيد من اللين والحكمة في اختيار معاركي؟
في المقبرة انقسمت كل الطقوس بين الجنسين، الرجال يؤدونها أولاً ثم تلحقهم النساء. غسل الرجال المرحوم وكفنوه، ثم ابتعدوا عن «المغيسل» ليفسحوا المجال للنساء لإلقاء النظرة الأخيرة. صلى الرجال بعد ذلك على الفقيد لتقف خلفهم النساء يؤدين الصلاة ذاتها رغم أنني كنت أعتقد أن الصلاة على الميت من نصيب الرجال فقط. بعدها مباشرة مشى الرجال، ومن خلفهم النساء، يحملون النعش مسافة غير يسيرة وصولاً لمثوى خالي الأخير. اصطفت القبور أمامنا على مد البصر، بعضها «بشواهد» كبيرة تحمل الاسم وتاريخ الوفاة وبعض الأدعية أو الآيات القرآنية، وأخرى بشواهد صغيرة قامت لتشهد على ظلم هذه الحياة وتسليمها اليسير للصغار لوحش الموت. بدت المساحة كأنها حديقة غناء ملونة، ذلك أن الزيارة المستمرة للقبور والعناية بها والزراعة حولها هي طقس شيعي مستحب يقوم عليه سواسية الجنسين. بين دموعها، كانت خالتي تكرر مشيرة بيديها تجاه القبور فيما الركب يحث السير «سلام عليكم أجمعين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون». نظرت «لبروفيل» خالتي الحزين وأنا غير قادرة على إبعاد فكرة أنني وإياها وكل هذا الركب لن نكون هنا خلال الخمسين سنة القادمة، وأن أحداً لن يتذكر هذا الموقف بتفاصيله، وأن أحداً لن يستفيد من سلاماتها ووعودها باللحاق السريع، فأي معنى لهذا كله؟
عند الفجوة الأرضية التي ستصبح قبراً لخالي، اتخذت مقعداً بلاستيكياً بعيداً بعض الشيء، أرقب بعيني اليسرى إجراءات الدفن الطقسية المذهلة وبعيني اليمنى وجه أمي الجميل الشاحب. وفيما النساء يتحلقن حول القبر يحاولن إلقاء نظرة على الفجوة المحرمة عليهن، كان خالي الأصغر يحاول إبعادهن بحزم لَيِّن: ابتعدن جزاكن الله خيراً، لا تزاحمن الرجال، هذا لا يجوز، ابتعدن الآن وستتاح لكن الفرصة للاقتراب والوداع لاحقاً. تذكرت مجدداً معاركي السابقة، حين كنت أصر على حقي في مخالفة المفروض الذكوري الذي لم يكن ليبدو منطقياً، مخترقة العادات والتقاليد، قافزة على ألم الموقف تنفيذاً للتحدي المستحق، إلا أن لمرور الزمن والتقدم في العمر تأثيرهما، ومن ذلك أن بدت العادات والتقاليد خلابة المشهد عن بعد، مذهلة في غرابتها ولا منطقيتها وطقسيتها الشديدة، ومن ذلك أيضاً أن بدا الحزن والألم والفقد جميعهم مدعاة للهدنة مع المجتمع. بدت اللحظة تستحق المراقبة الهادئة عن بعد من جهة والتنازل الحليم من جهة أخرى. بعد أن انتهى «الملقن» من تلقين الفقيد الشهادة وتذكيره بأئمته الاثنى عشر وتنبيهه لضرورة الثبات «عند السؤال»، سُجى الجسد وهيل التراب وحان موعد النساء مع القبر بعد أن توارت الفجوة بالجسد المحرم التعامل معهما عليهن. جلست الحزينات النائحات على التراب، بعضهن يقرأن الآيات والأدعية، فيما أخريات يخاطبن المتوفى رحمه الله توديعاً أو طلباً للمغفرة أو وعداً بلقاء قريب. ورغم حقيقية ألم الجرح المفتوح الذي بانت آثاره على الجميع، بدت الصورة بترتيب مراحلها وطقسية أدائها أقرب إلى المشهد الدرامي المنصوص نصاً، كل يعرف دوره فيه. حتى ختام هذه الرحلة المؤلمة بدا مشهداً ملحمياً مؤثراً، والنساء يعدن أدراجهن بحراً هادراً من العباءات السوداء وقد تمسك بأطرافها تراب المقابر، نحمل بعضاً منه إلى الحياة التي لا نزال نحياها.
خلال أيام العزاء، التي كانت رغم حزنها دافئة باللقاءات والأحضان والقبلات، تفكرت كثيراً في معنى الطقوس الدائرة وفي الشعور الذي توفره بالراحة والأهمية للقائمين عليها، والأهم بما تؤكده من فكرة الاستمرارية بعد الموت، هذا الهدف الذي تذهب البشرية لأجل إثباته وتأكيده إلى أبعد المعتقدات والطقوس الممكنة. إبان تلك الأيام، شاركت أنا في المشهد عن بعد، دون تحد أو تبرم أو اعتراض، ومع كثير من التحليل، لربما أكتشف شيئاً ما!