بالمنطق
وضع غريب جداً، أنا لا أعرف إدارة مثل تلك التي لدينا. لندع النقاش السياسي جانباً، لندع الحجة الإنسانية جانباً، ولنتكلم بمنطق بحت. كم دولة نعرفها تصدر حكوماتها قرارات ثم تعمل على تعطيل وعرقلة تنفيذ هذه القرارات حد إصابتها بالشلل التام؟ حكومتنا، ممثلة بالجهاز المركزي، هذا الجهاز الذي يمتد عمره باتجاه عكسي وإنجازاته تصدر القرار تلو الآخر بخصوص البدون بغرض هدم هذا القرار وإعاقة تنفيذه. قرار بفتح باب التوظيف لإحصاء 65، قرار بالقبول في السلك العسكري، قرار بالبدء بالتجنيس المنظم لأصحاب الحق، قرار بالسماح لأطفال البدون إحصاء 65 بالعودة للمدارس الحكومية، وغيرها وغيرها، وبعد أن يصدر القرار ويهلل له المهللون، تبدأ الحكومة ذاتها بجهازها المركزي ذاته بإعاقة التنفيذ ووضع العراقيل وسد الطرق، طالبين ورقة بعد ورقة، داعيين لتوقيع تعهد بعد تعهد، واضعين القيد الأمني بعد القيد، طوابير انتظار، صفوف مراجعين، هدر لوقت وجهد في أجهزة الدولة، تعطيل وإهانة ليس فقط للبدون ولكن كذلك للموظفين الملزمين بتقديم هذا الوجه الحكومي من انعدام الفاعلية.
في 2012 وبعد اعتصامات لعدد من المجموعات الإنسانية أمام مبنى القبول والتسجيل في الشويخ، جامعة الكويت، صدر قرار بتحديد 100 مقعد للبدون المتفوقين من الحاصلين على 90% فما فوق (بعد لا نقاش حول مصير الحاصلين على نسبة أقل من 90%). من ساعتها والحكومة في معركة مع قرارها بحد ذاته، مرة بإنقاص عدد المقبولين بحجة عدم وجود شواغر، ومرة بتأخير القبول للفصل الثاني، وثالثة بتصعيب، حد استحالة، انضمام المتفوقين لكليتي الطب والهندسة، هذا غير أن كل الطلبة الذين لسبب أو لآخر لم تتجدد بطاقاتهم أو بطاقات أهلهم لا يمكنهم الانضمام لأي مؤسسة تعليمية ولو كانت خاصة، ولو كانوا سيدفعون من حر مالهم القليل. سنة بعد سنة والمتفوقون من أبنائنا البدون يقبعون في بيوتهم تأكل قلوبهم الحسرة وتموت آمالهم الفتية في صدورهم ونخسرهم نحن، وتخسرهم الدولة، محولين إياهم من طاقات مليئة بالأمل والنشاط والقدرة على الإنتاج إلى طاقات غضب مليئة باليأس والشعور بالغبن والتهميش. هذه السنة، ومع التصعيب المتزايد لتجديد البطاقات (المكتوب في ظهرها أصلاً ما معناه أنها لا تعد بطاقات رسمية) ومع تراكم القيود الأمنية التي توضع لأهون الأسباب (ما تسبب في التقليل من قيمتها) ومع قسر الناس على توقيع تعهد مهين يرفض العديد منهم، معذورين، التوقيع عليه، تعقدت مسألة تسجيل البدون المتفوقين في المؤسسات التعليمية الحكومية، حيث يبدو أن هناك ترتيباً مع الجهاز المركزي بإغلاق صفحة التسجيل على بعض الطلبة المتفوقين والمستوفين الشروط (لأسباب يعلمها الجهاز وحده) لحين إتيانهم بورقة موافقة منه. وهكذا تتشعب وتتداخل الدوائر، دائرة بعد دائرة، ورقة بعد ورقة، قيد بعد قيد، رفض بعد رفض، والأعمار تمر والآمال تموت، والمشكلة تبقى معلقة، لا خطوة فيها للأمام ولا عودة منها إلى الخلف.
لقد وعدت بألا نتكلم من المنظور الإنساني، لذا لتذهب الآمال والأحلام وكرامات الناس إلى الجحيم، دعونا ننظر إلى مشكلتنا، ننظر إلى تكلفة هذه القرارات والمماطلات والتعقيدات والعقبات على أجهزة الدولة، على شكلنا الخارجي، على ميزانيتنا، على وقت حكومتنا الضائع في إصدار قرارات ثم في عرقلتها كأن الحكومة تلعب لعبة مع نفسها، دعونا نصبح أنانيين على خسارتنا لطاقات متفوقة كان يمكن أن تخدم هذه الأرض وتخدمنا نحن “دلوعي” الخليج والشرق الأوسط، دعونا نغضب من أرجحتنا وتسويف أمر بلدنا والضحك على ذقوننا بقرارات تبدو مرتبة وأنيقة على صفحات الجرائد، لتظهر ريحتها بعدها بأيام وهي تتمزق بين أجهزة دولة تحاول إعاقتها لا تحقيقها، دعونا نُحرج من دولة، بكل مقدراتها وأجهزتها وإمكاناتها، تضع رأسها برأس أطفال صغار، تتعاند معهم ضغطاً على أهاليهم، فترمي بهم للشارع لبيع الفاكهة اليابسة على قارعة الطرق المشتعلة حرارة، تحرق أحلامهم بوضع عراقيل دائرية مغلقة لا خروج منها لإيقاف إدراجهم في المؤسسات التعليمية العليا. أي إدارة هذه وأي خطة إصلاحية؟
أختم بتغريدات لابن عمي المحامي طاهر خالد الخطيب والتي يتحدث من خلالها بالمنطق الخالص قائلاً: “يتم استخدام نظرية risk aversion في التشريع في أرقى الدول لمعرفة آثار القرارات الحكومية على ميزانية الدولة، ولو تم اعتماد معيار مصلحي بحت لوجدنا أن تكلفة قيام الدول بتعليم كافة أبناء البدون يعود عليها بمصالح محققة تتمثل بانخفاض مستوى الجريمة، وتوفير ملاذ آمن للأفراد، والاستفادة من مخرجات التعليم النادر، وتيسير تجنيس ذوي الخدمات الجليلة، وارتفاع الوعي المجتمعي بما يقلل من تكاليف الرعاية الصحية والمخالفات، والقضاء على الأعمال غير المرخصة التي تتطلب ملاحقة من ذوي الضبطية القضائية، وتقليل إرهاق الجهاز الأمني، وتحسين صورة البلد إنسانياً، وزيادة القوة الشرائية، وتحفيز عجلة الاقتصاد وأمور عدة تتطلب ذلك التدخل الإيجابي، ولو افترضنا أن الإخوة بالحكومة يخلون من الإنسانية فالاعتبارات المصلحية وحدها كفيلة بحل مشكلة تعليم البدون على أقل تقدير”.