انقلاب على الحريات أم تعزيز لها: في الموجة الصاعدة للحقوق المعاصرة 2
لكل أيديولوجية تطرفاتها بلا شك، لكنها واحدة من أعجوبات هذا الزمن حين أخذ اليمين المتطرف يبدو أكثر اعتدالاً ومنطقية، وهو بطبيعته ليس كذلك مطلقاً، استغلالاً للموجة الحقوقية الصاعدة التي فلتت مفاهيمها من كل الأطر التنظيمية التي يستطيع البشر التحرك من خلالها. إن مساءلة وتحدي الأطر التنظيمية هما أسلوبا تطور الفكر والأيديولوجية والسلوك البشريين، وعليه، فإنه من الحيوي جداً لجنسنا البشري أن يسائل كل مفاهيمنا التقسيمية وأطر تنظيم حيواتنا وحقوقنا باتجاه المزيد من الحريات والحقوق والتضمينات البشرية المتنوعة، إلا أنه حتى المساءلة والتحدي المحموديين يمكنهما أن يتطرفا ويأخذا البشرية إلى منعطف يهدد كل مكتسباتهم الحقوقية السابقة، صانعين موجة مرتدة ربما تعيدنا حقوقياً سنوات للخلف.
لا يظهر واضحاً كيف انتقل العالم المعاصر من مرحلة استحقاق الطفل للحماية من «الفحوى البالغ» غير الموائم لعمره والذي قد تكون له نتائج نفسية وجسدية بليغة الأذى، إلى مرحلة استحقاق الطفل للاطلاع على هذا الفحوى ولاتخاذ قرارات مصيرية قد تحيق به مضار دائمة تفضي إلى الموت أو قد تعرضه لصدمات نفسية لا يستطيع تعديها فيما بعد. لقد قفز العالم قفزة ضخمة من نقطة الحماية المستوجبة للطفل من القرارات الخطرة ومن الفحوى الجارح لسيكولوجيته، إلى نقطة تحريره الكامل ومعاملته على أنه بالغ مكتمل الأهلية لاتخاذ أكثر القرارات خطورة ومصيرية. هذه الخطوة أتت مع اعتراف العلم بمرض Body Dysmorphia أو ما قد يعرف على أنه رهاب الجسم أو الشكل، وهي حالة نفسية تدفع بالإنسان للنفور من جسده وكأنه لا ينتمي له، وهي الحالة التي قد تبرر عملية تمكين الأطفال منذ سن صغيرة من الانتقال إلى حالة حضور جسدية أكثر تواؤماً مع حالتهم النفسية. لكن هذه النظرية الحديثة لم تتطور وتتثبت بعد لتجعل عملية تغيير الطفل لهويته عملية آمنة. لقد ناضل الحقوقيون مطولاً لعتق الأطفال من فرض اختيار عقيدة دينية وهم في سن صغيرة، وناضلوا أيضاً لحماية الأطفال عموماً من المرور بتجارب جنسية مبكرة وخصوصاً الصغيرات المعرضات لجريمة الزواج المبكر، فكيف تحولت كل هذه النضالات الإنسانية إلى مظالم تستوجب محاربتها، وكيف ننتقل بأمان من عملية حماية الطفل إلى عملية تمكينه دون الإخلال فعلياً بصحته النفسية والجسدية؟
تحتاج البشرية بلا شك إلى مراجعة كافة أطرها التقسيمية وقوانينها التي فرضتها بناء على هذه الأُطر، وأن تحترم حقوق البشر كافة وتؤمن سلامتهم وحقهم في اختيار نوعية وكيفية عيشهم لحيواتهم، هذا مبدأ لا يجب أن يتهدده التطرف الذي يمر به بعض النضال الحقوقي الغربي اليوم. إلا أن الواقع أن المبدأ مهدد، والنضال الإنساني مهدد، والحراك النسوي مهدد، ومفاهيم التعددية الجندرية كلها مهددة بسبب الغلو السلوكي والفكري القائمين. وعلى أن حرية اختيار الهوية هو حق إنساني حتى وإن أتى على خلاف مع كل ما تعتقده مجتمعاتنا وتؤمن به كقواعد أخلاقية، لكن محددات هذا الحق يفترض أن تراعي حدوداً حقوقاً وسلامة الآخرين وأمنهم، الذين لا يجب أن يتضرروا بسبب هذا التحرر الحقوقي. لا بد، والبشرية تتجه باتجاه المزيد من التفهم للتعددية الجندرية، أن تؤخذ بعين الاعتبار بعض المقاييس الاستشكالية الحياتية، مثل المقاييس الرياضية للجنسين، ومقاييس الخصوصية حين استخدام الخدمات العامة مثل الحمامات النواد الرياضية ومراكز التجميل، والمقاييس الثقافية مثل الخصوصية التي تتطلبها النساء في بعض الأديان والثقافات، والمقاييس الطبية التي لا تزال تلتزم تماماً بالتقسيم الأنوثي الذكوري حين التعامل مع مشاكل الجسد.
بلا شك، تهدد التطرفات الحالية منظومة الحقوق الإنسانية الكاملة التي ناضلت البشرية على مدى قرون للحصول عليها. يعلمنا التاريخ أن كل موجة متطرفة من هذا النوع سيكون لها موجة مقابلة، مساوية في القوة، متضادة والاتجاه. وعليه، فإن هذا النوع من التطرف التحرري من التصنيف العمري والجنسي وغيرهما، سيرتد موجة مضادة على كل الحقوق والحريات التي حصدتها البشرية بشق النفس إبان القرن الماضي. كما أن مفهوم «ما هي المرأة» والمعاناة التي تحملتها المرأة بناء على الأجوبة المتعددة لهذا السؤل والاستحقاقات التي تحصلت عليها بشق النفس وبأثمان مرتفعة نتاج نضالها الذي قادته إجابات هذا السؤال، كلها ستذوب في خضم هذا الخلط الهوياتي، ولربما سيصعد كثيرون على ويتكسبون من معاناة المرأة ويستغلون استحقاقاتها وربما حتى مساحاتها الخاصة بحجة المرور من جنس لآخر بلا أطر واضحة تحفظ الحقوق.
الجنس هو حالة بيولوجية، نعم قد لا تكون ثابتة بالدرجة التي طالما تبنتها البشرية، لكنها في نهاية الأمر ذات معطيات علمية واضحة. الجندر هو المعبِّر عن التوصيف الاجتماعي السلوكي، هو تجربة وشعور وحالة نفسية واجتماعية، وتنوعها واختلافاتها وتأثيرها على الهوية النهائية هو ما يحتاج لتفهم وقبول. هذه الحاجة للتعامل مع المفاهيم الجندرية والبيولوجية المتجددة التي يفصح لنا عنها العلم، وهذا المطلب في إعادة ترتيب المفاهيم البشرية الجنسية والجندرية، كلها تخصنا نحن كذلك مهما انغلقت مجتمعاتنا ومهما ادعت محافظة وتدين يمنعها من التعامل مع هذا الواقع الجديد. لا بد لنا أن نكون جزءاً من الحوار، ولو اختلفنا معه، ويا حبذا لو تعاملنا بمنطقية وبواقعية مع العلوم الجديدة، لا أن نبقى نضرب رؤوسنا على حائط الخصوصية والمحافظة والمفاهيم الدينية الرافضة لمواكبة الزمن وعلومه.
في المقبل من السنوات، ستكون هناك هجمة مضادة على حقوق النساء بحجة أن الفكر النسوي هو ما قاد لهذا التطرف، وهي حجة يتداولها المتطرفون على الطرف الآخر من الآن، كما وسيكون هناك عنف ممنهج ضد كل المرونات الجنسية والجندرية والحقوق الإنسانية التي كُفِلت من خلالها. وعليه، لا بد من حوار إنساني عالمي لا يخاف مساءلة الموجة المتطرفة الحالية، ولا ينقلب على العلوم التي فتحت عين البشرية على تنوعها الجنسي والجندري وعلى الحقوق المكتسبة بناء على تلك العلوم. لا بد لنا أن نكون جزءاً من هذا الحوار، وسنكون؛ ذلك أن أجيالاً جديدة قادمة ستخرج عن الطوق وستنظر فيما نشيح نحن عنه.