«انشا الله عنك ما حبيتها»
ظهر خلال الأيام السابقة «هاشتاغ» على تويتر من السعودية يطالب بمقاطعة مكتبة جرير بسبب بيعها لكتب نوال السعداوي. وحين كتبت معلقة على «جنون» بقعتنا الشرق أوسطية التي لا تفقه شيئاً عن الوسطية، والتي لا تزال تحاول أن ترفع جدراناً عازلة حول شعوبها في حين أصبحت المعلومات اليوم تسبح في الهواء والأخبار تسري عبر السماء أو من خلال قيعان المحيطات، غضب الغاضبون لأنني بذلك حجرت على حرياتهم، فهم أحرار في إقامة محارق للكتب، وهم أحرار في قمع الآخرين. طبعاً هذه هي نسخة الحرية الشرق أوسطية التي هي مختلفة و»متميزة» عن حريات العالم أجمع.
«لماذا تريدين فرض كتبها علينا؟ ألا ترتاحون أيها العلمانيون إلا إذا أحببنا هذه الملحدة؟»، هكذا توالت الردود على اعتراضي على فكرة منع الكتب، ولا أدري تحديداً ما علاقة محبة الناس أو قبولهم بالكاتبة أو الكاتب أو حتى قراءتهم لكتبهم بالسماح ببيع هذه الكتب. يعني إذا كنت لا تحب أن تأكل الكنافة وتعتقدها ضارة بالصحة، هل ستطالب بمنع الكنافة من الأسواق؟ وإذا كنت ترفض لبس اللون الأحمر الذي قد تعتبره غير محترم مثلاً، هل ستجرؤ على المطالبة بمنع هذه الصبغة من أن تطال أقمشة الملابس؟ مَن طلب حبك لنوال السعداوي، بل ومن انتظرك حتى تقرأ كتبها؟ «إنشاالله» عنك ما أحببتها أو قرأت لها، كل المطلوب أن يكون لمحبيها وقرائها ذات الفرص في الاختيار التي هي لك، صعبة الفهم هذه؟ فيزيا كمية؟
الحرية كمفهوم ليست معقدة ولا عصية على الشرح، المعقد والعصي هو بلع هذا المفهوم والقبول به. ممارسة الحرية في أي مجتمع تعني تعريض هذا المجتمع لدرجة من المعاناة، سيرى البعض ما لا يحبون أن يروه، وسيسمع البعض ما يكرهون سماعه، وستعرض المكتبات كتباً ذات مواضيع شاسعة الاختلاف مع السائد والمقبول، وستعرض دور السينما وبرامج التلفزيون ما قد يتحدى القواعد الأخلاقية السائدة، وسينتج المسرح ما قد يتحدى كل عرف أو تقليد. هذا هو مفهوم ممارسة الحرية، الخروج عن السائد من طرف وتحمل هذا الخروج من طرف آخر. بذلك سيضمن هذا الطرف الآخر ذات الحق والفرصة حين تدور الدوائر وتتبدل الأدوار.
كلما استراحت الحرية في المجتمع، استراح الإنتاج الفني والأدبي والعلمي واتسعت رقعة الحوار واشتدت عضلات الناس التحملية واستقوت قدرات الأفراد على التفكير النقدي والحوار العلمي، وكلما عانت الحرية في المجتمع، عانى الإنتاج الفني والأدبي والعلمي وضاقت رقعة الحوار وتهدلت عضلات الناس التسامحية وارتخت قدرات الأفراد على التفكير النقدي والحواري العلمي. شيء واحد فقط سيقوى عندها: السب والشتم والتكفير والمطالبة بتكميم الأفواه. عدا ذلك، كل شيء سيهبط باتجاه جاذبية القمع الفاسدة للأسفل، ليتهدل المجتمع بأكمله ويتجعد جلده وترتخي كل عضلات أجزائه المختلفة.
حتى المطالبون بمقاطعة مكتبة أو منع كتب أو تكميم كاتب، يعلمون بسخافة وتفاهة مطلبهم في زمن تطير فيه المعلومة في الهواء، تستطيع استدعاءها شفاهة لتظهر لك كأنها سحر مبين. الموضوع ليس في الحقيقة مطالبة بمنع أو محافظة على أخلاق أو حماية من فكر، الموضوع هو موضوع تشويه ممنهج لسمعة ولفكر ولتوجه، حتى يخشى الناس هذا الإنسان وتلك الفكرة وذاك التوجه، وحتى يتعاظم لديهم الشعور بالذنب من التساؤل حولهم أو التفكير في منهجيتهم، وحتى يستمر المجتمع كله متوكئاً في صف واحد، لا يجرؤ أحد على مجرد أن يطل برأسه لثانية خارجه. كيف تحكم مئة مليون شخص مثلاً وتضمن طاعتهم و»استقامتهم» على طريقك؟ تضع على كل واحد منهم شرطياً؟ غير معقول. تقنعهم بفكرة. تثبت الرعب في قلوبهم تجاه مخالفتها. تصور لهم العذاب الأبدي الذي ينتظرهم لو أنهم خرجوا خارج صفها. تلعب على مشاعر الذنب التعذيبية التي ستباغتهم إذا ما تجرأوا فسألوا. وهكذا، لا شرطي ولا مسدس ولا طلقة، مجرد فكرة، ازرعها بعمق، واروها بصبر، ثم اتكئ على كرسيك الهزاز وراقب «هاشتاغات» تويتر التي تعلن انتصارك المريع واندحار العقل الأليم.
الغرب دوماً يتآمر علينا، داعش مؤامرة، إيران مؤامرة، فيروس كورونا مؤامرة، ولكن لم يحتجِ الغرب لكل هذه المؤامرات للقضاء علينا؟ ألا يكفي الغرب الشرير، لو أراد أن يبيدنا، أن يتركنا لجهلنا ومخاوفنا قابعين خلف الجدران الكونكريتية التي نبنيها بأيادينا حول أنفسنا؟ لا يحتاجون إلى عمل أي إضافة، نحن «مكفين وموفين والله».