انشاد الملائكة
إلى أن يصل الخامس من يناير، نحتاج إلى هدنة…
لابد أن الخير لايزال موجوداً، في صقيع الندوات والجلسات والاستجوابات التي جمدت حياتنا، في ظلمة العنف وظل العسكر وهوج الغضب، في محيط القسوة الناتجة عن هذا التخلخل المجتمعي، تقاذف النقد المؤلم وتراشق الاتهامات المفزعة وتسيد لغة قاسية تقرص النفس وتعصرها، ننسى الخير والجمال، نيأس منهما. ننسى أن هناك أناساً لايزالون يرسمون ويألفون الألحان، أناساً لايزالون يعشقون ويتغازلون، أطفالاً يولدون، خضاراً يمرق في صفار الصحراء. يملؤنا الغضب فنستسلم للذته، وللغضب لذة شريرة، فتتعطل بقية حواسنا وقد شلها «هرمون» الأسى فلا نعود نشعر بهم، لا نعود نراهم، هؤلاء الملائكة الذين يعيشون بيننا فيرطبون دنيانا كلما اشتد جفافها. يا لضياع لحظات العمر مسكوبة في وعاء الغضب، تسكن اللحظات الوعاء وتتعفن، فتشيع رائحتها على بقية الأيام، ونخسر… نخسر لحظات ثمينة لا تعوض، والأهم نصرف الملائكة من حياتنا دون حتى أن نميز وجودهم.
كم ضيعت من عمري في غضباتي، نقد جارح أو اتهام خيالي أو كره معبأ من شخص لم تسبق لي معرفته من قبل، تتقلص نفسي بمرارة تكاد تفقدني ثقتي بالإنسانية التي طالما آمنت بنقائها الفطري حتى أفيق على وقع ملاك، يستوقفني في السوق يبتسم ببياض ويسرني: نشد من أزرك يا دكتورة، نحن معك، فينتفض القلب وترفرف خلايا الجسد، دون أن يدرك الملاك أن ابتسامة الشكر الموجهة نحوه قد نبتت فوق جلد تجدد شبابه في التو واللحظة، ومن رحمة الله أن جعل أجسادنا تغرق في ظلمتها فلم ير ملاكي غضباتي المتكومة، ضميري الفائر، قلة حيلتي وأخطائي المتكالبة، لم يميز ضآلة إنسانيتي، فحباني بكلمات أعادتني من زيف الغضب لحقيقة المحبة والرضا. وذاك ملاك ببدلة المضيف الجميلة على متن الخطوط الجوية الكويتية، يحمل في يده كيس مكسرات صغيرا ومجلة، يقدمهما عربون امتنان وهو يعرف نفسه بكلمات قليلة ثم يثني بكلمات كثيرة، فتسبق روحي الطائرة إلى علياء السماء، أطير بأنانية إنسانيتي التي تستمتع بالثناء، وتسبح روحي بتفاؤل يتجدد على وقع كلمات الخير والحب على لسان الجيل الجديد، روح طالما نسيت الخير الكثير والملائكة المندسة في كل زوايا أعمارنا، فنجحدهم بنسياننا ونخذلهم بطغيان غضبنا. ملائكتنا تنقذنا في تلك الأيام التي نشعر فيها بأننا أسفل الهرم وقد رزخ ثقله كاملاً على صدورنا، ابتسامة محبة، كلمة مدح عابرة، ملاحظة رقيقة، فينقلب اليوم، وينعكس شعور الأسى والإحباط، فنحب أنفسنا فقط لأننا رأيناها بعيون الآخرين الرحيمين… ملائكتنا الحارسة تمشي على الأرض.
كم جحدت وخذلت، ولهؤلاء الملائكة الذين لا أعرف كيف أصلهم أردت أن أقول أنا آسفة، وودت أن أقول أنا شاكرة، وتمنيت أن أغني، بنشاز صوتي، لحن عرفان لتخطيهم عيوبي وارتفاعهم بقلبي فوق الضغائن، لأنهم وجدوا فيّ أكثر مما وجدت يوماً في نفسي، فعلموني درساً في التواضع أمام الغضب، فالغضب كبرياء، والتنازل أمام الأسى، فالأسى جحود بالسعادة، والسقوط على ركبتي أمام قسوة الآخرين، ففي القسوة تنبيه يصقل الروح وتذكير لها بأخطائها مهما حرصت وبجهلها مهما تعلمت وبفنائها مهما رفرفت عبر الزمان.
ويبقى هذا الملاك الصغير، أحلم به منذ زمن، وجه صغير ورأس مزغب، عينان واسعتان وفم منمنم، يهبط ملتصقاً بقلبي حتى يتوحد نبضه بنبضي. يرفع رأسه بابتسامة تنهش قلبي، فأصحو فزعة وأنا أستعيذ بالله من نقاء ملائكي لم تعد تستوعبه النفس. في صحوي أسأل الملاك «ثقيل الظل» بغضب: لم أنت هنا؟ ألا ترى أن حياتي امتلأت وتعقدت ولم يعد فيها مكان لنقائك؟ لم تدس أنفك على واجهة حياتي في الزمان الخطأ والمكان الخطأ؟ لم أعد أنا أنا، أفقد جزءاً مني في كل غضبة من غضباتي، يسكت الصغير ولا يجيب. أنام وأحلم وإذا به يهبط من جديد، يعاتبني بتجديد ذكرى كل الملائكة التي مرت على أيامي فجعلتها أجمل، يلازمني خجل الجحود حتى بعد أن أصحو، أسر صلاة شكر واستغفار موهوبة لملائكتي، لكل ملاك مر علي برحمته، وأرحب رغماً عني بالملاك الصغير، فلابد أن لتوقيت وجوده سببا. وعلى كل، ليس باليد حيلة، فالملائكة لا تشاورك حين تهبط على حياتك، وهي لا تغضب حين ترفض أنت محبتها، ولا تبتئس سوء استقبالك لها، تسامحك وتحبك على الرغم منك، تصحبك إلى أن تعود للرضا، وتبقى تحرسك إلى أن تنتهي حياتك.
لكل يوم ملاك، فمن هو ملاكك اليوم؟