الوجه الآخر للبشرية
لم يهاجم فيروس الكورونا المناعات الجسدية الضعيفة فقط، ليحرك أسوأ الأعراض الفسيولوجية وليبتزّ أضعف المناطق البيولوجية في أجسادنا، هذا الفيروس هاجم كذلك المناعات العقلية الضعيفة ليظهر أسوآ الأعراض النفسية ويُصَدّر أقبح المناطق الفكرية في وعينا.
فيروس الكورونا كشفنا، كشف الأجساد البشرية الهشة التي لا تزال على أول السلم التطوري كما وكشف النفسيات والعقليات البشرية التي بعد لم تضع قدماً على سلم ذلك التطور تتبعاً للأجساد. ما زالت النفسية والوعي وما يترتب عليهما من أفكار وتصرفات محجورة في العصور ما قبل الحجرية، حين كانت غريزة البقاء، وفقط غريزة البقاء، هي كل ما يحرك الإنسان وحين كانت المصلحة والرغبة في حماية الذات هما كل ما يشكل سلوكياته.
منذ بداية أزمة كورونا وعلى المستوى العالمي، سارعت الدول في إغلاق حدودها، عازلة سكانها عن العالم الخارجي، ثم بادرت لخلق حدود داخل الحدود، عازلة طبقاتها الثرية عن تلك المتوسطة والفقيرة.
تتساءل الكاتبة الهندية، أرونداتي روي، في مقالة لها في الفاينانشال تايمز كتبتها على إثر الخطابات التفاخرية الرنانة لرئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، حول “كفاءة” التعامل مع الفيروس “هل يمكننا أن نتشكى . . . أن حدود الدول الأخرى قد أُغلقت في وجوهنا ورحلات الطيران قد تم إلغاؤها؟ أنه تم عزلنا بالداخل مع فيروسنا ورئيس وزرائنا، بصحبة كل الأمراض، كل الجهل، كل الكراهية وكل الغباء التي يمثلها هو وحزبه وطراز سياساتهم؟”
وعلى حين أن روي ترمي بغالبية اللوم على رئيس وزراء دولتها، إلا أن هذه الصورة المتوحشة البشعة لقسر الهند على إغلاق حدودها على نفسها بكل الفقر والأمراض والفساد ،وكأننا نرفع الأسوار حولهم في شبه قارة مشتعلة لينجو منهم من ينجو وليفنى من يفنى، هذه الصورة هي الأقسى والأبشع والأصدق للوجه الآخر للبشرية والتي علينا مواجهتها.
تقول روي: “بدأت بلداتنا ومدننا الكبيرة تتقيأ الطبقة العاملة فيها، عمالها المهاجرين، وكأنهم فائض لا ضرورة له”. ولقد شاهدنا جميعاً صور للآلاف، إن لم تكن للملايين، من هنود الطبقة المتوسطة والفقيرة مرتحلين إلى قراهم، يتساقطون في الطريق جوعاً وعطشاً ومرضاً، ومن يصل منهم، يصل، ليموت في قريته ولينشر المرض أكثر بين أفرادها كما توضح روي في مقالها.
إضافة إلى كل هذا البلاء، أُوعز نشر الفيروس لمسلمي الهند، لتطل العنصرية البغيضة بوجهها القبيح المشوه في أشد وأحلك الأوقات والتي نحتاج خلالها لرؤية، ولو لمحة، من الوجه الحنون للبشرية.
الغريب المريب أن هذا القبح لا يرتبط حصرياً بالفقر والتعدادات الضخمة للسكان، كلاهما قد يوضحاه ويضخماه، إلا أنهما لا يحصراه في ظرفيهما.
في منطقة الخليج العربي الثرية ارتفعت النبرة العنصرية ضد الشيعة أنهم من قاموا بجلب فيروس كورونا من إيران إبان اشتداد الأزمة وعودتهم من سياحاتهم “الفارسية” إلى دولهم الخليجية.
لازلت أتذكر في الكويت كيف نعق نائب في مجلس الأمة بلوم الشيعة على إثر عودتهم من سياحتهم متهماً إياهم أنهم جلبوا معهم موجة من الفيروس للكويت، بل ولقد كانت هناك نظريات تُرَجح تعمد النشر الشيعي للفيروس كنوع من الحرب البيولوجية على الخليج. بعد هذه الفترة بأسابيع قليلة، وردت موجة ثانية من الفيروس إلى الكويت، هذه المرة محمولة في أجساد سياح بريطانيا، إلا أن هؤلاء ينتمون لطبقة لا تحتمل اللوم، فيروسهم غربي، “موديرن”، لا يمكن أن يتقصد أهل الخليج بسوء.
ينتشر في جنبات روحي شعور عارم بالذنب حين أمر على المناطق الأقل حظاً في الكويت والتي تم تسييجها بالأسلاك الشائكة في أوائل مراحل انتشار الفيروس. من كان يظن أننا سنرى هذه المناظر في زمن حياتنا؟ لقد أتى فيروس كورونا ليبرز واحدة من أعمق وأفظع المشاكل الداخلية في الكويت ألا وهي مشكلة تجارة الإقامات التي يستغل بها الأثرياء حاجة الفقراء، ليجلبوهم عمالة فقيرة ويلقوا بهم في الشوارع بلا عمل ولا راتب.
فكيف كان رد الفعل العام؟ ارتفعت نسبة النفور من المقيمين في الكويت، وألقى الكويتيون بالعموم اللوم على “الوافدين” الذين “أكلونا وما تركوا لنا شيئا في البلد”، وهكذا، عوضاً عن أن نرى كشعب متكامل الصورة الحقيقية الحزينة، انقسمنا، ووقفت المجموعة الأكبر على جانب الرصيف الفاخر، تتشكى من إزعاج الوافدين الذين يخدمونهم على مدار سنوات وتطالب بترحيلهم وتخليص البلد منهم. لا، لست أعمم، لكن ما يحدث لا يبتعد عن كونه ظاهرة مزمنة كويتياً وخليجياً، ظاهرة قبيحة سرب رائحتها هذا الفيروس الخبيث.
وماذا عن الولايات المتحدة، كيف تعامل رئيسها السابق مع هذا الفيروس سياسياً وعلمياً؟ من منا لا يتذكر التسمية الأميركية الأولى للفيروس، “الفيروس الصيني”، والتي رفعت نسبة العنصرية وبالتالي الاضطهاد ضد الشرق آسيويين في أميركا والعالم عموماً؟ ماذا عن الدول الأوروبية؟ من يستطيع أن ينسى كيف ظهر علينا الإيطاليون والإسبان في أوائل مراحل انتشار الفيروس يستصرخون العالم مترجين أنابيب الأوكسجين والكمامات الحافظة؟
من ينسى صور وفيديوهات للإيرانيين يتساقطون في شوارع بلدهم دون أن يجرؤ على الاقتراب منهم أحد؟ ومن ينسى عذابات المصريين وصور مراكز حجر العائدين منهم إلى بلدهم والتي تبدو وكأنها عشوائيات متهالكة، فيما الحكومة تصرح، بما معناه، أن العالم يتساءل حول العبقرية المصرية ويود أن يستفيد من تجربتها الرائدة في مكافحة الوباء؟
على الأقل كنا نستطيع أن نبتسم مع التصريحات المصرية، أما المواقف الخليجية فما استجلبت سوى النفور والغربية ما استجلبت سوى الرعب وأما الشرق آسيوية فقد أكدت من خلال تعامل ساستها أو من خلال ردود فعل العالم تجاهها أن جنسنا لم يتخطى العصر الحجري فكرياً ومبدئياً بعد.
لربما أظهرت الجائحة صوراً إنسانية مشرفة، لكن الحقيقة أن التدهور الأخلاقي المصاحب قد جلب ما قبله وما بعده وهو يتطلب، بلا أدنى شك، مراجعة بشرية عميقة عامة.
المنطقة العربية بمجملها، على سبيل المثال، تعاني إبان الدراسة عن بعد التي فرضتها الجائحة من مشكلة غش غير مسبوق، مشكلة أبرزت ركاكة الأسس الأخلاقية وضعف البنية التحتية الأيديولوجية. لربما كارثة الغش هذه التي انتشرت أسرع من الفيروس بحد ذاته غير مميتة إكلينيكياً، لكنها بالتأكيد مميتة نفسياً وذهنياً.
كيف سنخرج كبشرية عموماً، وكشرق أوسطيين تحديداً، من أسفل أنقاض الكورونا، وماذا نحن فاعلون حيال كل الأمراض النفسية والفكرية التي أظهرها هذا الوباء وأتخمنا بروائحها؟