المشهد الأخير
أحد أبرز مشكلات العالم الإسلامي العربي تحديداً تكمن في حلمه العقائدي القديم المتجدد والذي فيه هو ليس مكون من مكونات العالم بل هو في صدارته، على أعلى القمة القيادية السياسية، وليس بالضرورة الحضارية أو العلمية، ذلك أن الفكرة العقائدية لسيادة المسلمين على الأرض يوما ما، لا تزال مسيطرة تماماً على العقلية الدينية العامة، وهي أداة رئيسية في يد الحكومات ومحرك رئيسي للشعوب كي تبقى الأخيرة متكتلة دوماً في تطلعاتها المستحيلة وأحلامها الاستشكالية وطموحاتها غير القابلة للتطبيق، وهي التطلعات والأحلام والطموح التي تنحصر في إرضاخ العالم كله لعقيدة واحدة وقيادة هذا العالم بمعية “امتلاك” هذه العقيدة، انتهاء للحياة البشرية على سطح هذه الأرض بمشهد انتصاري ديني أخير هادر.
ليس حلم سيادة العالم عقائدياً بحكر على المسلمين، فالمسيحيين كانت ولا زالت لديهم ذات النظرة العقائدية، إلا أن انفصال المسيحية كعقيدة عن الحياة المادية والسياسية جعل هذا الطموح ينحصر في حيز المعجزات “الحكواتية”، في زمن مستقبل أسطوري، وهو مستقبل دوماً، حيث لا يمكن تحقيقه آنياً ولا يجب السعي باتجاه ذلك بأي صورة من صور التحرك العسكري العنيف. اليهود يمتلكون نظرة مشابهة، ولربما يكون المنظور اليهودي الأقرب للمنظور الإسلامي، أو الإسلامي أقرب لليهودي، إذا أردنا التزام الأمانة الزمنية، حيث يعتقد اليهود بحصريتهم البشرية، وبالوعد القادم يوماً ما لإعلاء كلمة “شعبهم المختار”.
ولا يخفى أن حجة وراثة الأرض من الخالق هي الحجة المستخدمة في تبرير إقامة دولة إسرائيل، وإن كانت حجة صورية ولا تمثل الدافع الحقيقي، والتي لربما أول من حفزها في الزمن الحديث بحسب تقرير لمحمد شعبان منشور على موقع “رصيف 22” هو يهودا القلعي، الذي دعا إلى العودة إلى “أرض الآباء” وبناء المستوطنات اليهودية تميداً لإقامة دولة يهودية عليها.
ورغم ذلك، أخذ المشروع الإسرائيلي منذ بدياته صورة سياسية حين تجلى كنتاج للسياسات الأوروبية والأميركية خصوصاً منذ بدايات القرن العشرين وهي سياسات قادت للحربين العالميتين وانتهت بالمحارق النازية والقنبلة النووية على هيروشيما ونكازاكي. وهكذا نجد تشابهاً بين كل الأديان الحديثة في حلم سيادة الدولة الدينية، إلا أن الفرق بين المسلمين واليهود تحديداً يتجلى في أن الأخيرين ليسوا تبشيريين، بل هم العكس تماماً، هم حصريين ونوعاً ما طاردين للآخر الذي لم يرث الديانة اليهودية أماً عن جدة (على اعتبار أن امتداد الديانة اليهودية يتجلى من خلال امتداد دم الأم). ولذا، رغم إيمانهم بأنهم الصفوة الحاكمة للعالم كله ذات يوم، هم لا يبشرون بديانتهم ولا يفرضون هذه الفكرة على العالم بإصرار ساذج، هم، وإن كانت فكرتهم مشابهة، يلعبونها صح تماماً.
المؤكد أن ساسة العالم العربي يعلمون تماماً باستحالة تحقيق “الحلم العربي” الإسلامي، مع الاعتذار من كاتب الأغنية التي تحمل ذات العنوان مدحت العدل، وأن عالم اليوم المدني الدولي الذي تخطى التقسيمات الإمبراطورية الدينية والسيادات العقائدية أو الأيديولوجية الشمولية لن يكون فيه ولو “خرم إبرة” لتنفذ منه هذه الفكرة الأسطورية.
إلا إن إبقاء الفكرة حية هو سلاح سياسي مهم، به يبقى الوعد بالخلاص يوماً ما حياً، يبقى الأمل بنهاية الظلم واستتباب العدل المقدس مستمراً، والأهم، أن من خلاله تبقى عملية الحشد والشحن الجماهيريين قائمة، ليبقى الجميع في بوتقة واحدة، بوتقة الأمل في مستقبل مستحيل والاستعداد لتحمل كل ظلم وفساد دونه. هكذا تتحمل الشعوب العربية مظالمها، تتحمل الديكتاتورية والعنف والفساد صبراً واحتساباً حتى يأتي اليوم المنشود. لا مخدر أفضل من هذا الحلم السلطوي الشمولي المثير.