المشخصاتية
تهمني دوماً تعليقات قراء «القدس العربي» بمديحها ونقدها، حيث إن الثناء، بلا شك، يُدخل البهجة للقلب ويرسخ شيئاً من مشاعر الثقة والأمان، في حين أن النقد يدفع، وإن تألماً، إلى مراجعة النفس ومعاودة تقييم الأفكار ومحاولة ترتيب الحسابات. لكن هناك نوعاً ثالثاً من التعليقات الذي يأتي مفرغاً من الاثنين، وإن بقي مهماً جداً كذلك، ظاهره محاولة إهانة وباطنه معجون بألم حقيقي نابع، في رأيي، عن خوف من الرأي الآخر والشعور بأنه تهديدي لثوابت لا يرغب الناقد في التفكير بها أومراجعتها. ورد تعليق من هذا النوع على مقالي السابق، ولفت نظري إليه، مشكوراً، أحد الأصدقاء، ذلك أنه أحياناً تفوتني بعض التعليقات أو بعض تفاصيلها في سرعة الاطلاع ومحاولة الإلمام بكل المادة الثرية المهمة القادمة من القراء.
وكنت قد كتبت في المقال السابق حول حوار دار بيننا كمجموعة من الصديقات حول موضوع لغة القرآن، ليتطور هذا الحوار وصولاً لحد استخدام إحدى الصديقات «حق الفيتو» الموهوب مباشرة لكل من يتحدث باسم الدين، آمرة الجميع بضرورة إيقاف الحوار، ومعلنة أن هناك أموراً لا يجوز لنا الخوض فيها، لأعلق أنا بدوري أن على المستاء أن ينسحب من الحوار دون أن يفرض على الآخرين إنهاءه، وهو مقترح تعاملت معه الصديقة بضيق وتجاهل، لتنتهي الحادثة هنا وتبدأ أخرى على صفحات «القدس العربي».
جاء التعليق المعني على المقال لربما ليؤكد فعلياً فكرته حول المحاذير التهديدية التي تشل التفكير وتعيق الرأي الآخر، بل ويزيد عليه. فقد قال القارئ الكريم في جزء من تعليقه: «هناك فرق بين أن يسأل شخص اختصاصه التمثيل والمسرح عن أسباب مرض ما وأعراضه وطرق تشخيصه وعلاجه، وأن يتصدى هو للإدلاء بدلوه في هذه الأسباب والأعراض لمجرد أنه قرأ أو اطلع على كتاب أو كتابين عن طب ذلك المرض!»، وهو التعليق الذي أنقل جزءاً منه حرفياً بعلامة التعجب الأخيرة الواردة فيه. راقني التعليق فعلياً؛ ذلك أنه يلخص الكثير من مشكلاتنا الفكرية ويستخدم ذات اللغة النمطية والأسلوب التقليدي الذي يهاجم الشخص لا الفكرة، ساعياً لتصغير المُنْتَقَد والتشكيك في كفاءته عوضاً عن النظر في فحوى الموضوع بحد ذاته.
فأولاً، يشير الناقد إلى معلومة ما تيقن هو منها، وهي أن اختصاصي هو التمثيل والمسرح. في الحقيقة، ليس لي شرف التخصص في التمثيل، تخصصي نقدي في المسرح الحديث والمعاصر والنظريات النسوية الحديثة، حيث كان هذا هو موضوع رسالتي للدكتوراه. ثانياً، تحمل الجملة تصغيراً واضحاً، وإن كان ضمنياً، لتخصص التمثيل والمسرح والذي، على ما يبدو بالنسبة للناقد وكثير من عموم الشارع العربي، لا يرقى أصحابه لأن يكون لهم رأي في أي موضوع آخر سوى في مجالهم «كمشخصاتية»، والتوصيف هنا لي، كما كان يطلق على الممثلين في القرن الماضي. هنا لا بد من وقفة رد اعتبار في هذا العمود لتخصص السينما والتمثيل الذي لم يسعفني حظي بدراسته، سوى لربما بمادة أو مادتين إبان فترة الدراسات العليا، هذا الفن العظيم الذي غير مجرى التاريخ الإنساني منذ اختراعه صامتاً في بداية سنوات 1900 محملاً بنظريات أدائية محملة بدورها بنظريات ذهنية ونفسية وسلوكية عظيمة أوصلته فناً وعلماً وفلسفة إلى المصاف الأولى من الفكر والفن الإنسانيين.
ثالثاً، جزم الأستاذ الناقد أنني «أدلي بدلوي» بمجرد «قراءة أو الاطلاع على كتاب أو كتابين،» والحقيقة أنا لا أعرف من أين للسيد الكريم بهذه المعلومة أو بأي معلومة حول نوعية وكمية ما أقرأ، إلا إذا كان يتجسس عليّ عبر الأقمار الاصطناعية. فحتى لو ادعى أن فحوى كتاباتي الضعيف، في رأيه، هو دلالة فقر ما أقرأ، فهذه حجة مكسورة لكل صاحب نظرة فاحصة للطبيعة الاستيعابية البشرية، ذلك أنه لطالما كان هناك قراء نهمون مولعون بطي صفحات الكتب، إلا أن مستخلصاتهم من فحواها قليلة، قد أكون أنا منهم، وقد لا أكون. ويبقى السؤال الأهم أمنياً بالنسبة لي، من أين للناقد معلومته حول عدد ما أقرأ من كتب؟ والسؤال الأهم أتصور بالنسبة لأي قارئ أو متابع، أن هل هي تحتمل المناقشة الفكرية، أخلاقياً، أسلوب الادعاء جزافاً بلا سابق علم أو تيقن؟
أما رابعاً فهي النقطة الأهم والتي تتمحور حول قِصر الرأي النقدي الديني، كما يشير الناقد، على أصحاب الاختصاص، وهي الحجة المستخدمة في عالمنا العربي الإسلامي بشكل مستمر، وأحياناً ترهيبي، لإسكات الصوت الآخر، ناقداً كان أو متسائلاً. ففي حين يدعي أصحاب المنظور التقليدي للفكر الديني بضرورة هيمنة الدين كفكر وفلسفة على كافة مناحي حياة الإنسان، إلا أنهم وفي تناقض غريب، لا يرون أحقية هذا الإنسان في مناقشة هذا القالب الذي يجب أن يحيون به كل تفصيل من تفاصيل حياتهم. يرى هؤلاء التقليديون، ولا أسميهم متدينين؛ إذ إن للتدين منحى وسلوكاً وفكراً آخرين، أن المسلم عبد المأمور، تأتيه التفسيرات والتحليلات والأوامر من «أصحاب الاختصاص»، وكل ما له في ذلك هو أن ينفذ، وفي أفضل الأحوال أن يستفسر لطفاً ودماثة، دون اعتراض أو تشكيك. لطالما أبهرتني هذه الفلسفة الغريبة: وجوب أن تحيا كل حياتك بكافة تفاصيلها طبقاً لعقيدة ليس لك أن تناقشها، أن تسائلها، ولا يجب أن يكون لك رأي فيها، فأنت لست صاحب اختصاص ولا تمتلك المعرفة، أنت مجرد أداة تنفذ ولا تفكر. يبدو المنطقي أن الإنسان الذي يعيش كل تفاصيل حياته طبقاً لمنظومة ما، يحياها كل يوم، ينفذ أفكارها ويتنفس فلسفتها، هو حقيقة -فكرياً وتطبيقياً- أكثر المتخصصين فيها. بالنسبة لي، تذهب هذه النقطة تحديداً لأبعد من ذلك، لمساءلة تعريف كلمات علم وعالم وصاحب الاختصاص، وما إذا كان ذلك سينطبق على علوم الدين وعلى «رجالاته المتخصصين» حالياً، وهي مساءلة «ملتبهة» بفايروس السلطة والسطوة والتي، أي تلك المساءلة، سرعان ما ستتداعى تحت وقع ضرباتهما الحُمِّية القاتلة دفاعاً عن وجودهما واستمرارهما.
بلا شك، أنا شاكرة تعليق الناقد الكريم الذي أتاح لي فرصة التأكيد على كافة النقاط النقدية التي طالما ذكرتها متفرقة في مقالاتي، كما أنني أؤكد حقه الذي أحترمه أنا وصحيفة «القدس العربي»، ثبوتاً من نشرها المستمر لتعليقاته، على نشر رأيه مهما قسا وحمل -إعلاناً أو تبطيناً- نقداً قاسياً أو ذماً مهيناً؛ ذلك أن هذا النوع من النقد تحديداً هو ما يبقي أعيننا مفتوحة على اتساعها، وأقدامنا مثبتة على الأرض، وعقولنا متحركة باستمرار لمراجعة المفاهيم والآراء بتنوعها. ولربما الأهم أن هذه النوعية من النقد هي التدريب الأقوى لعضلة قبول الرأي الآخر مهما قسا أو تواضع في أسلوبه، ذلك أن هذا التدريب العضلي هو ما يحافظ على رشاقة مفهوم الحرية، وهو ما يذكر باستمرار بأهميتها الحيوية العظيمة التي من أجلها يُدفع وعن طيب خاطر غالي الأثمان.