المستقبل الحامض
في إثبات جديد لإمكانية السفر عبر الزمن، ظهر مؤخرا تطبيق تليفوني يضيف السنوات لصور الأشخاص ليعطي لهم الفرصة لرؤية وجوههم بعد ثلاثين أو أربعين سنة من الآن. تضع صورتك، تضغط الزر، فترى نفسك وقد مر بك الزمن في لحظة، وجهك الذي تعرفه لا تعرفه، يحمل علامات زمن بأفراحه وأتراحه وتجاربه التي لم تعشها أو تمر بها بعد. بعد أيام من انتشار هذا التطبيق، ظهر فيديو لشيخ دين يحرم من خلاله استخدامه لسبب لم أكلف نفسي عناء سماعه. لم يعد أحد يأخذ فتاوى أو آراء هؤلاء الشيوخ المنصب اهتمامهم على صغائر الأمور بأي جدية مع الأسف، أقول مع الأسف، لأنهم باندفاع فتاواهم ولا واقعيتها، وأحيانا كوميديتها الناتجة عن شدة لا منطقيتها، أفقدوا الحوار الديني اليومي الكثير من الجدية، وهو حوار فلسفي مهم، كان ليضيف للشارع بأيديولوجياته المختلفة وطبائعه المعجونة بالعادات والتقاليد والمفاهيم الدينية، هذه المفاهيم التي ما أصبح يعار لمنظريها اهتمام اليوم بسبب هذا الهزل والضحالة في التناول والتحليل.
إلا أن ذلك ليس موضوعي الرئيسي اليوم، موضوعي هو هذا التسارع العجيب في الزمن والذي أتى بالمستقبل إلى حاضرنا، هذا الخطو العملاقي للتكنولوجيا الذي بات يقدرنا على رؤية المستقبل، وفي القريب العاجل على رؤية الماضي، لربما بالعين المجردة. يتحدث العلماء عن مقدار التطور المقبل في اتجاهنا في السنوات القليلة المقبلة، لربما الخمسون سنة المقبلة، بما يثير العجب والرعب معا. في المستقبل القريب، يقول بعض العلماء المتنبئين، لربما سيكون لكل منا عيادته الخاصة في منزله، حيث سيتحول المرحاض إلى عيادة مصغرة تقوم بتحليل خروجات الجسد بأنواعها لتكتب بها التقارير التحليلية وترسلها للأطباء مباشرة، الذين سيتمكنون -مع تطور تقنية التحليلات- من التنبؤ بالمقبل من المتاعب الجسدية للاستعداد لها، وكذلك التنبؤ بإمكانية الإصابة بالأمراض العضال لتفاديها قبل حلولها على الجسد. سيصبح كل فرد من البشر حالة خاصة، ستخبره أجهزة منزله بما يحتاج من مأكل ومشرب خاصين بحالته الجسدية، سيخبره تليفونه بحالته النفسية، وستحادثه حوائط بيته حول مواعيده والتزاماته. يقول البعض من العلماء إن المستقبل سيخزننا كذاكرة ومعلومات وقدرات عقلية في رقاقة صغيرة ستزرع في أجسادنا، لربما لتحل محل عقولنا، تصبح معلوماتنا شاسعة وحاضرة، تصبح قدراتنا هائلة، وتصبح تحركاتنا كلها محسوبة مراقبة خطوة بخطوة، فهذه الرقاقة ستخدمنا كما ستخدم الحكومات التي ستغرسها في جلودنا متابعة لتحراتنا وأقوالنا وأفعالنا.
في المستقبل القاتم، كل شيء سيتغير للميسورين، وسيبقى الفقر حامضا وأصحابه مقهورين معذبين، كل شيء سيتطور في الأفكار، وسيبقى رجال الدين قوة وسطوة فوق العقل والمنطق والفكر السليم.
البعض الآخر من العلماء يقول إنه ربما بعد جيل أو اثنين، لن يموت البشر، وسيصبح الخلود ممكنا، لن نطير في طائرات وسيصبح التنقل الإشعاعي ممكنا، لن تحمل النساء وسيصبح التكاثر المعملي سائدا. من المتوقع كذلك أن يتم تصميم الأجنة قبل تكونها، أو إعطاؤها مواصفات جينية ترسم للمولود خطة حياته كاملة قبل قدومه إليها. لربما ستتسع قدرات البشر وذكاؤهم حد خلقهم لأجهزة ذكاء صناعي تفوقهم هم ذاتهم قدرة وذكاء، فيصنعون كائنات متطورة مستقلة التفكير والتحليل وقادرة على الشعور واتخاذ القرار وتحكيم الضمير، كل ذلك من إمدادات كهربائية وإلكترونية في تواز مع تركيبة البشر العضوية، لينهزموا في النهاية أمام خلقهم ويقعون أسرى لإنتاجهم خارق الذكاء. لربما سنخترق سواد الكون في القريب العاجل ونقابل غيرنا من الكائنات، بأنماط حياة مختلفة تماما عن أنماطنا وعن ما نصور الآن في أفلامنا، حيث لا يستطيع استيعابنا القاصر لمعنى الحياة أن يذهب لأبعد من رسم صورة مشابهة لنا بجسد ورأس وحواس، وكأن الحياة كلها، وأينما كانت، لها شكل مادي واحد ولها منطق محسوس متماثل.
في الخمسين أو المئة أو الخمسمئة سنة المقبلة، سيتغير كل شيء، سنتبدل نحن بشدة حتى لا نعود نحن نحن، لا في الجسد ولا في العقل، كل شيء سيتغير إلا شيئين في توقعي: ذل الفقر، وتطرف رجال الدين. ستبقى الدنيا طبقات، وذات التكنولوجيا التي ستخدم الأغنياء والميسورين وتغير حياتهم جذريا هي ذاتها التي ستعذب الفقراء دون أن تمسهم بأي من فوائدها وإيجابياتها. وسيبقى رجال الدين سباقين للمنع والتحريم، والتهديد والوعيد، ليعودوا بعد زمن قصير، لا يمنحنا فرصة نسيان تناقض كلامهم وأفعالهم، لاستخدام ذات ما حرموا، منضمين إلى ذات من هددوا ووعدوا. حين تظهر تكنولوجيا التعديل الجيني ليأتي الصغار حسب الطلب، سيحرمون ويهددون ويتوعدون، ثم سيتحول الوضع لأمر واقع، وستلاحقهم ضغوط الأغنياء والحكام، وستغريهم المميزات والنتائج، فينضمون بعد أن يصنعوا الفتاوى المناسبة المبررة للخطوة التغييرية، وحين سيبدأ عمل «الروبوتات» الشبه بشرية في البيوت سيرتفع زعيق المنع والتحريم، فهذا التصنيع هو تشبه بالخالق، وهذا الاختلاط بآلة قد يتسبب في إغواء (غير بعيد هذا المنطق عن تفكير البعض مطلقا)، إلى أن يصبح الأمر واقعا مرة أخرى، تلاحقهم الضغوط، تغريهم المميزات، فينضمون بعد عمل اللازم. ذات الدائرة التي نراها منذ الألف سنة تبدو بعدُ ذات نفَس طويل، واستسلام الناس لها يبدو قائما لألف سنة قادمة، ومعاناة البشرية معها مستمرة وممتدة للمستقبل البعيد.
في المستقبل القاتم، كل شيء سيتغير للميسورين، وسيبقى الفقر حامضا وأصحابه مقهورين معذبين، كل شيء سيتطور في الأفكار، وسيبقى رجال الدين قوة وسطوة فوق العقل والمنطق والفكر السليم. أم، هل سيختفون مفسحين الطريق «لنساء» دين مختلفات مطورات؟