“المراءة” تاج على رؤوسكم
قدمت قبل أيام حوار مسجل صوتاً وصورة مع جريدة الجريدة الكويتية حول موضوع العنف ضد المرأة، متحدثة عن أشكال وأنماط عدة من هذا العنف، أخطرها في رأيي هو العنف النفسي الذي من خلاله يمكن للذكور، للأسرة وللمجتمع ككل إقناع المرأة أنها أقل شأناً، أن إنسانيتها أقل درجة، وأنها كبشر إنما هي مستحقة، بسبب من جنسها، لحقوق أقل ومتحمِّلة لواجبات أكثر. لطالما كانت هذه المقدرة المجتمعية الأبوية مبهرة، أن يستطيع المجتمع إقناع إنسان أنه أقل من نفسه، أنه يهبط درجة على سلم نوعه بسبب من جنسه، أنه أقل ذكاءً، أنه أضخم مسؤولية، أنه رهن الوصاية، أنه ملزم بالطاعة، أنه ناقص عقل ودين بسبب من نوعه البيولوجي. ليست الأنوثة بضحية فريدة من نوعها لهكذا عملية غسيل مخ وروح، سبقها اللون حين تم إقناع العبيد ذات زمن بتراجعهم الإنساني، بل وبواجبهم الديني في طاعة المالك، وتزامن معهما العِرْق، حين تم إقناع الفقراء، مثل untouchables أو المنبوذين في المجتمع الهندي القديم أنهم أقل درجة إنسانية وأن عليهم ليس فقط تجنب الاختلاط بطبقات المجتمع الأخرى، بل وحتى الامتناع التام عن ملامستهم أو النظر في أعينهم. مبهرة المقدرة البرمجية تلك، ومحزنة هذه القابلية البشرية على التكيف والتعود، حتى ليحب الإنسان معذبه، بل ويؤمن به وبعلوه وبانحطاط نفسه هو وتدني شأنه.
ولقد جاءت التعليقات على الفيديو محملة بالعنف الذكوري الذي أذكره في حديثي، وكأن التعليقات تؤمِّن على ما أقول، كأنها تقدم دليلاً على كل ما أدعيه في الحوار. فمن سخرية إلى شتم وسب إلى كاريكاتيرات عصابية الفحوى واللغة إلى الضرب في “بني ليبرال” (اعتقاداً أنهم وحدهم المعنيين بقضية تحرير المرأة) إلى التشكي من تكرار الموضوع (وكأن معاناة المرأة قد انتهت ووجب قلب صفحة الحديث عنها) إلى الاستشهاد السلبي، بآراء حقوقية أخرى مرتبطة بقضية المرأة كالرأي حول التعدد الجندري، تموج التعليقات بلزوجة مثيرة للغثيان، كأن الجالس خلفها ذكر واحد، من النوع الذي يصبغ شاربه بالأسود الحالك، يرتب وجهه بالتفصيل الملل، يجلس على المقاهي العامة يراقب الآتي والغادي وقد تدلدل لسانه مرطباً شفتين لزجتين ممجوجتين، هذا النوع “الكول” خارج بيته، العنيف الكريه داخله، هذا النوع الذي يستبيح نساء غيره بالنظر والفكر ويربط نساءه بسوء نواياه وغياب كل ثقة له في بني جنسه.
أحد أظرف صور العنف اللغوي، وهو ظرف مجازي حيث لا ظرف ولا لطف في الموضوع، يتمثل في الطريقة التي يشترك فيها الذكوريون، وخصوصاً الرجال منهم، ذلك أنه يمكن للنساء أن يكن ذكوريات فكرياً كذلك، في الطريقة التي يكتبون بها كلمة امرأة، حيث يكتبها تقريباً كلهم “المراءة”، وكأن الاتفاق المشوه في الفكر يتبعه ذات الاتفاق المشوه في اللغة. بالطبع لا أدعي بأي حال من الأحوال أي علمية لرأيي هذا، فهو مبني على ملاحظة ساخرة لنوعية المُقَدَّم العام على وسائل التواصل وما يصلني منه بالتحديد، وهي نوعية تبرز عما عداها من منطلق أن السيئ يعم والطيب صوته خفيض، إلا أن الملاحظ أن معظم كُتاب هذه الكلمة من نوع محدد من “الأشاوس”، الذين إذا أرادوا أن يقدموا إهانة، أشاروا أولاً للعمر، ثم للشكل، ثم للحالة الاجتماعية مشيرين “للعنوسة”، وأحياناً إذا تدهور بهم الوضع الأخلاقي يلمحون ويصرحون حول الشرف والسمعة، كما وأنهم من عشاق الإشارة، في حال مخاطبتي مباشرة، إلى رأيي حول التعددية الجندرية، وهم لهذا يستحقون كل الشكر. إلا أن ما يربط كل تدهوراتهم الفكرية والإشاراتية والأيديولوجية هو الإشارة “للمراءة”، التي لا يكتفون بتشويهها وتشويشها اجتماعياً وحياتياً وحقوقياً، ولكنهم يدخلون على اللغة كذلك، ليحرفوا ما بقي للمرأة من حروف تقيم أود هويتها.
“المراءة” هذه التي تألفون عليها كاريكاتيرات رديئة الرسم وتواجهونها بالتخويف والتشنيع تكميماً لصوتها، هي من تعلمكم “المروءة” وهي تعيش كل تفصيل من تفاصيل حياتها. لدينا حالياً في منطقة الخليج حركة نسوية تقاطعية مهمة، تتداخل فيها طبقات اجتماعية وأصول عرقية لطالما كانت غائبة عن المشهد، وهي حركة تعطي اليوم زخماً رائعاً وبعداً جديداً للنضال. بكل تأكيد الكثير من هذه النساء المتحدثات جديداً على وسائل التواصل صغيرات في السن وقليلات في الخبرة، لذلك هن يقعن في أخطاء عدة قد تعطل حراكهن بعض الشيء، وأهم أخطائهن في رأيي بتعبير مبسط هو ضيق صدورهن بالنقد ورغبتهن بالبوح أحياناً دون الاستماع، كما وأنهن ينجررن للعنف التعبيري أحياناً والذي هو موجة متسلطة على وسائل التواصل يخطؤها البعض على أنها شجاعة وبطولة، إلا أنه ورغم الأخطاء الكثيرة والمتوقعة في أي حراك مشابه، إلا أنهن حقيقة “المراءات” اللواتي سيحققن التغيير المنشود.
ولربما يصح هنا تكرار الرأي الذي أزعج “صغار” وسائل التواصل. حياة المرأة وأمنها وسلامتها وحريتها أثمن ألف مرة من كل شعارات الشرف والسمعة التي ترفعون ولا تنفذون. لا شرف ولا سمعة ذكور الدنيا كلها تعادل حياة امرأة واحدة وسلامتها قولاً واحداً. ولكم الآن أن تشبعوا سباً وتشنيعاً خلف حساباتكم الخفية، هي تليق بكم.