«اللي فات ما مات»
خطاب عودتك سالماً ضج بالدفاع عن دستورية الدولة ومدنيتها، ولا أدري كيف تصون هاتين تصويتاتك ضد حقوق المرأة ومع إعدام المسيء ومواقفك النيابية السابقة من استجوابات سابقة على سبيل المثال لا الحصر. وخطاب عودتك ضج بضرورة عدم النسيان ومحاسبة المخطئين الذين تسببوا في دمار ديمقراطية ودستورية الكويت، ولا أدري لمَ لا تدخل أنت في ملف المحاسبة هذا وقد كان من ممارساتك النيابية ما كان. وخطاب عودتك نص على أن إنقاذ الكويت لن يكون إلا بتنفيذ مضامين خطاب “كفى عبثاً”، ولا أدري كيف يستطيع “المناضل” أن يكون على هذه الدرجة من الاستعلاء حتى أنه يوعز إصلاح بلد كامل لرأيه هو. وخطاب عودتك وصم كل من يقف مع الموقف الحكومي بأبشع الأوصاف، ولا أدري كيف يمكن لصاحب فكر عادل أن يطلق الأحكام جميعاً على عواهنها، وخطاب عودتك أشار “لخالات” هذا ولمح لأصول ذاك، ولا أدري كيف يمكن للحقوقي المناضل الإنساني أن يستخدم هذه اللغة وإن استخدمها غيره ضده. خطابك قال الكثير مما لم تفعله أنت، ووقف ضد الكثير مما أتيته أنت، وتشخصن وتعنصر ودق على المشاعر القبلية، وصفقوا لك، كما صفق آخرون لرئيس مجلس الأمة ولرئيس الوزراء ووزير الداخلية الذين ما قصروا أبداً في تمزيق الديمقراطية. بينك وبينهم، إن استمررت على نهجك واستمروا، على الديمقراطية والدستورية والمدنية ألف رحمة ونور.
مسلم البراك سجين رأي، لا جدال في ذلك، ومسلم البراك نائب سابق رجعي، كلف البلد والديمقراطية وحقوق الإنسان الكثير بتصويتاته، تلك أيضاً لا جدال فيها، ومسلم البراك تحمل مسؤولية كلمته قاضياً مدته بصبر وجلد مما سيجعله رمزاً للتغيير الفعلي الذي يتحمل صاحبه ثمنه، تلك واضحة وضوح الشمس، ومسلم البراك صاحب كمية من الوساطات تجعل أكبر نائب خدمات يقف مذهولاً أمام “إنجازه”، تلك كذلك مثبتة معلنة. البراك كل ذلك، نعم، ويبقى الأمل أنه بعد أن قضى مدته في السجن دافعاً ثمن حرية الكلمة التي طالما صوّت هو ضدها، أن تتغير مواقفه تغيراً جذرياً حقيقياً، وأن يغسل ماضيه ليس فقط بسنتي سجنه ولكن بمواقف مستقبلية قوية خالصة لوجه الحرية والمدنية والدستورية والديمقراطية. ففي الأنظمة الديمقراطية الدستورية الحقة لا يغسل السجن الأدران، ولكن، وبعد الحساب العسير، هو التغيير الحقيقي والعمل الدؤوب والإخلاص لوجه حريات الشعوب وتحررها، تلك هي التي تحقق الغفران الأخير. في الأنظمة الديمقراطية الدستورية الحقة لا بطولة ولا تمجيد لأشخاص، ولكنها المبادئ والمثل والحريات، تلك هي المقدسة، تلك، في عمقها، هي بطلة المشهد.
أما في مشهدنا، فيتعامل الشارع المؤيد للبراك معه من منطلقين، فهو إما بطل مبجل لا يطوله نقص، حتى إن البعض، كما ذُكر في “تويتر”، أوقف له صوته مدى الحياة، سواء نزل الانتخابات أم لم ينزل، أو هو رجل كان على صراط غير ديمقراطي وغير دستوري ثم غيرته التجربة وحولته إلى مناضل من أجل الديمقراطية والدستورية ومعارض للحكومة وعليه فإن “عدو عدوي صديقي”. فأما الأولى فهي عادة ما تحول الأبطال إلى دكتاتوريين بسبب تبجيل يقترب من العبادة وينفخ في أنا الإنسان حتى تنفجر وتنال شظاياها كل من حوله، وأما الثانية فهي تُسدل “ستائر نسيان” داكنة تعمي الأعين عن الحقيقة، وتتغاضى عن الضرر الجسيم الذي كان، وعن ضرورة المراجعة والمحاسبة الملحوقتين باعتذار. يبقى الواقع الذي لا نختلف حوله، البراك، الذي تمت معاملته بتعسف وقسوة انتقامية تشهد عليها صوره وهو في أغلاله، كان سجين رأي (لم يكن معتقلاً كما بقي يشير في كلمته) وكل مؤمن بالحرية وحقوق الإنسان سيقف مع حرية رأيه وحقه في التعبير، وسيسعد بتحرره من قفص القمع، وإن اختلفنا مع كل رأي شخصي أو أداء نيابي قدمه في السابق.
ولأن الموضوع ليس موضوع البراك وحده، وإن كان هو يشكل جزءا كبيرا منه، بل هو موضوع جيل كامل وسيكولوجية متكاملة وطريقة تفكير موحدة، لربما يحق القول للشباب تحديداً أن حان وقت صنع أبطالكم من بينكم، أبطال جدد لا يُعبدون ولا يُحمدون، أبطال يُحاسبون بشدة، أبطال هامش الخطأ لديهم أقل من القليل. حان الوقت لتختاروا طريقاً مستقلاً جديداً متحرراً، لا إنسان فيه فوق النقد، لا مقدس فيه سوى الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية الحقة. ليس هذا الحديث موجهاً لناخبي القبائل أو ناخبي التجار أو ناخبي “العوائل” أو ناخبي الطوائف فقط، مع الاعتذار عن المصطلحات المؤسفة الواقعية، بل هو موجه أولاً وقبل الجميع لناخبي الحراك الليبرالي إن صحت التسمية، هؤلاء الذين على الرغم من كل مبادئ التحرر والاستقلالية الفكرية التي يقولون بها، لا يزالون يتعلقون بالرموز ويبجلونهم. إن الليبرالية والتحرر والإيمان بالحقوق الإنسانية إن صدقت تستدعي جميعها التخلي الفوري عن فكرة تبجيل الرموز، وتتطلب التعبيد الفوري لطريق جديد، وهل يمكن أن تتفق الحرية والكرامة الإنسانية في يوم ومفهوم تمجيد وتبجيل الأشخاص؟
رموزكم داخلكم، فكونوا رمزاً للحرية بتخليكم عن هذه الفكرة البائدة والبدء من جديد.