«الله يرحمك يا عبدالحليم»
كنت قد كتبت مسبقاً، وبشكل جدي لا ساخر، عن أهمية وجود اختصاصيين نفسيين في الطاقم الحكومي ليعينهم بعض الشيء على اتخاذ القرارات التي إن لم تكن صحيحة، فعلى الأقل هي ليست فاجعة في نتائجها. فلربما لو كان لدى الحكومة مثل هذا الطاقم الاختصاصي النفسي لأخبرها مثلاً أن ضرب واعتقال من لا يشعر بالحياة أصلاً، مثل البدون، إنما هو تبديد للطاقات وتشويه للسمعات وتحفيز للعداوات وخلق للثورات دون أي مردود إيجابي آخر. وبأم عيني شهدت تحول بعض شباب البدون الذين لم تكن لهم يد ولا رجل في القضية إلى ناشطين وثوار بعد أن فقدوا آخر ما يمتلكون: الإحساس بشيء من السلام.
ولو كان للحكومة مثل هذا الطاقم، لربما أرشدها إلى أن تكرار المنظر يميت القلب، فبعد ثاني أو ثالث مناسبة يشهد فيها الإنسان العنف يتحول إلى استئناسه. عندها تصبح تكلفة القنابل الغازية والطلقات الصوتية والمطاطية أعلى بكثير من أي نتاج مرجو، فلا هي تخيف ولا هي تعيق ولا تأتي بنتاج سوى صبغ الحكومة التي تستخدمها بصبغة الشمولية والتعامل الباطش. ولربما ساعد مثل هذا الطاقم كذلك في توجيه التصريحات والقرارات الحكومية بعض الشيء والتقليل من تضاربها، فهناك الكثير مما يمكن أن تصرح به الحكومة لتهدئة الشارع، ودون حتى الكثير من التنازلات، إلا أنه لسبب غريب ما لا تنطق الحكومة إلا بكل ما يثير ويعصف.
ولو كنت من ضمن الطاقم الاستشاري للحكومة، وبحكم خبراتي الأمومية، لأخبرتهم بسر لا يخفى على أحد، أي لم يعد سراً بعد الآن، ذلك أن الجيل الحالي تغير وبمساحة شاسعة عن الأجيال التي سبقته. لم تعد طاعة ولي الأمر والتقبيل على الرأس و”على أمرك يا يبا” لتدخل في وعيه وتركيبته الروحية، وكل أب وأم معاصرين يمكنهما أن يشهدا على هذا التغير الكبير في سلوك أبناء اليوم تجاههم عن سلوكهم هم ذاتهم تجاه آبائهم وأمهاتهم. إذن، في تعاملك مع اعتصام أو احتجاج أو غضبة أو مطالبة للشباب الذي سيقود هو دفة المستقبل، عليك أن تعي أبسط هذه المتغيرات وتضعها في الحسبان، أن تناقش هذا الشباب بلغة يفهمونها ومنطق يستشعرونه ورؤية يتفاعلون معها.
صحيح أن الشعب يختار حكومته، إلا أن الصحيح كذلك هو أن الحكومة تختار بعدها نوعية الشعب الذي تقوده، فإن أبقت في وعيها أن هذا الشعب هو القائد وأنها تعمل عنده ومن أجله، استتب لها وله الأمن والأمان، وإن نسيت وأخذتها العزة بالإثم وانتفخت أوداجها بهواء السلطة الفارغ، فسيذكرها الشعب، وسيكون التذكير مؤلماً وحراقاً على الجميع.
نحن نخوض في حوار مفرغ اليوم، فما زلنا نتجاذب أطراف التساؤل: هل المرسوم ضروري أم لا، هل يحق أم لا يحق، هل يجوز أم لا يجوز، ونسينا التعامل مع الأمر الواقع، فالشارع الهادر لا ينتظر في الغرف المغلقة ليتحصل على إجابة، وعلى الحكومات الواعية أن تتعامل مع هذه الحقيقة. لم يعد مهماً تفنيد رأي الشباب هذا، لقد فندنا ورددنا على بعضنا بعضا بما يكفي ويزيد، الآن نحن أمام أمر واقع وشباب ثائر وشارع يتخبط ويغلي، فما أنت فاعلة يا حكومتنا؟ وكيف ستتفاعلين مع مطالب شعبية وإن كنت ترين أو لا ترين أحقيتها؟ هل ستضربين في أي حراك قادم أم تنزلين من عليائك فتطلبين مشورة لن يصعب على أقل الخبراء تكلفة تزويدك بها؟
طريق القمع قصير وملتف حول نفسه، فسرعان ما ستجدون الشعب في ظهوركم قادم يحمل غضبته وشعوره بالمهانة والإذلال. على حق تعتقدونه أم على باطل، تحتاجون لأن تحاوروا وتتفهموا وتتنازلوا، وإلا فطريقكم مسدود مسدود… يا سادة.
“آخر شي”:
السيدات والسادة في التجمعات السياسية التي تسمى ليبرالية، إليكم تعليقاً من لغة تخاطب الشباب حالياً: أي شي؟؟!!