«الله حي»
لماذا نحن هكذا؟ نعظم القادة والحكام حتى لنوصلهم إلى مصاف الآلهة ونحولهم إلى طواغيت تلتهمنا فيما بعد بشراهة؟ طرقني هذا السؤال على قمة رأسي عند وصولي إلى جملة محددة في مقال الزميل صالح القلاب المعنون “عسكرية السيسي فخر له” (الجريدة، الاثنين 31 مارس)، حيث يقول: “أليس من حقه (أي السيسي) أن يذكر عائلته وأهله وشعب مصر بأنه ذاهب من موقع رجولة، حيث بقي يدافع عن بلده وشرف بلده…”، وتوقفت ها هنا. تلك هي حقيقة معضلتنا التي لا نريد أن نتخطاها والزمن يخطو فوق رؤوسنا ويتخطى عقولنا. نحن شعوب غارقة في “الأبوية” الشوفينية، لم نقترب خطوة باتجاه العالم المعاصر، نحن لا نزال نعيش في بلاد الرافدين، أو لربما في مصر القديمة، أو ممكن أن نكون أحدث زمناً فاستقررنا في الإمبراطورية الإغريقية، ما زلنا نعبد السلطة الأبوية والرمز الذكوري بعد أن أباد الرجال كل أثر للرموز المقدسة الأنثوية. عفواً منكم، ابتعدت عن فكرتي ودخلت في تاريخ الأديان القديم، لكنني أرى الموضوع، وأعترف بغرابة رؤيتي، شديد الترابط. نحن لا نزال نعيش الأديان القديمة، نعبد الرجل ونقدس الذكورة: ما زال “زوس” يحكم عقولنا و”ديونيسيس” يغيبها أحياناً، عقول مدبوغة بتقديس الذكر وكل الصفات القديمة المرتبطة به.
فلا غرابة في أن الكلمة الأولى التي يوصف بها المشير السيسي في مصر هي “دكر” باللهجة المصرية نسبة الى “ذكر” بالعربية الفصحى. هذه الإشارة ليست بالطبع فسيولوجية، إنها إشارة معنوية، هي توصيف “لموقع الرجولة” والذي منه يدافع السيسي عن “شرف” بلده كما جاء في مقال الزميل القلاب. وفي حين أن العالم المتحضر قد تخطى أولاً التعريف القديم للذكورة المنحصر في العنف واستعراض القوة، وتخطى ثانياً اللفظة بحد ذاتها، فلم تعد منحصرة في ذكورة أو أنوثة، بل اتسعت لتشير إلى “شجاعة” و”إصرار” و”عزيمة” وغيرها من الأخلاق الإنسانية التي تسمو بالشخص بغض النظر عن جنسه، لا نزال نحن نستصرخ ذات الصفات البائدة التي لم يعد لها معنى أو قيمة حقيقيان بين المفاهيم الإنسانية المعاصرة.
ولكن مجازاً وإيجازاً، إذا أردت اعتماد كلمة “رجولة” على أنها إشارة مديح للشخص ذكراً كان أم أنثى، وتلك معضلة لغوية ليس محلها النقاش في هذا المقال، فعلينا أولاً أن نعرف هذه الرجولة. أتراها تنحصر في القوة واستعراض العضلات؟ أتراها تتجلى فقط في ساحات الحروب والمعارك وتحت البدل العسكرية والنجوم الذهبية؟ هل يدخل في تعريف الرجولة إرهاب الناس وقسرهم وإخماد أصواتهم؟ هل تتجلى الرجولة في إفزاع كل من تسني له نفسه النزول في الانتخابات مقابل “الدكر”؟ هل تتحقق الرجولة في البوليسية، في تحويل المجتمع إلى ثكنة عسكرية الكل يمشي فيها بحساب ويتحدث فيها بحساب وإلا فالعقاب بالانتظار؟ هل الرجولة هي الترهيب والتخويف وقمع الصوت وإبعاد المختلف والمخالف عن الطريق؟ هل الرجولة هي الطعن في الجسد المسجى الذي كثرت سكاكينه؟
لربما هي عندنا لا تزال كذلك، فالرجل أصبح إلهاً في ظرف ما يقل عن السنة، بعد أن كان منتقداً ومحسوباً على الفلول، فقط نحن، في عالمنا العربي المنكوب، نستطيع أن نحقق الألوهية لبشر وفي فترة قياسية كتلك، فقط نحن يمكننا أن نشهد القمع فنغني عن الحريات، نشهد التخويف فنتغنى بالأمان، نشهد التأليه “فنتفرفط” حباً في شخص هذا “الذكر” المتواضع. نحن، بقينا نحن وحدنا نعبد البزة العسكرية، التي لا يلبسها في الزمن البائد الذي ما زلنا نعيشه سوى الرجل، يدافع بها عن “الشرف”، وتعريف هذه الكلمة قصة أخرى، ينام بها رجلاً ويصبح بها إلهاً، ونحن حوله دروايش ندور وندور.