اللهم نيزك
كان يمكن لحكم المحكمة الدولية أن يكون أعمق وأشجع وأقوى تأثيراً لو أن المحكمة لم تحسب حسبة تأثر الدول العظمى ولم تأخذ بعين الاعتبار «شكلها» أمام العالم أجمع إذا ما تجاهل الاحتلال، وهو فعل وكان ليفعل، حكم المحكمة الأقوى المستحق بقراراته التابعة. كان يمكن للمجتمع الدولي أن يتخذ موقفاً حقيقياً أكثر تأثيراً لو أن حسبات المصالح لم تأخذ الحيز الأكبر، ولو أن حيوات الأطفال وأمنهم كانا أكثر أهمية، ولو صورياً، من الدولار والنفط والسلاح. كان يمكن للدول العربية أن تنظم موقفاً موحداً جاداً مؤثراً له قيمة عند العالم أجمع بحكوماته العظمى لو أن المصالح ما غلبت الأخلاق والمفاهيم الإنسانية، ولو أن المبادئ ما تكومت ركاماً مبعثراً، مثل بيوت الغزاويين، تحت ضغط التطبيع القائم والقادم والمحتمل والموارب تحت شعار «الحي أبقى من الميت» و»الغاية تبرر الوسيلة»، حيث الحي هي المصالح والميت هي الدولة الفلسطينية، والغاية هي الموازنات العالمية والوسيلة هي طحن أجساد الأطفال تحت الحديد والإسمنت.
إلا أن الدولة الفلسطينية ليست ميتة كما يعتقد أصحاب «مسك العصا من المنتصف» وإخوانهم «المصلعين»، الذين باعوها وكشفوا رؤوسهم للعالم. الدولة الفلسطينية لم تكن حية في يوم كما هي حية الآن؛ لقد انتشرت فلسطين وتبعثرت ورداً وزيتوناً حول العالم أجمع، حيث كونت كل جالية فلسطينية في كل مهجر في العالم وطناً فلسطينياً صغيراً بكل عاداته وتقاليده وطبيعته الحياتية. وعليه، ومنذ أن بدأت أوروبا بتهجير يهودها إغراء وقسراً إلى أرض فلسطين، ومنذ أن دخلت الولايات المتحدة في هذه اللعبة الرخيصة في أواخر القرن الثامن عشر، مما استدعى بالضرورة المصالحية القذرة تهجير السكان الأصليين في حملة اشتد أزرها في بدايات القرن العشرين، ما إن بدأت هذه الخطة، ذات الخيوط المسيحية اليهودية الأوروبية، وتكاثرت كالعفن الأخضر، حتى تبرعمت فلسطين في كل بقعة جغرافية سكنها الفلسطينيون. إنها سخرية القدر أن حاولت الحركة الصهيونية الأوروبية طمس «الأرض التي بلا شعب» ليخرج الشعب الحقيقي للأرض فيصنع شعباً في كل أرض.
المحصلة أنه كان يمكن إنقاذ آلاف الأطفال، وتشغيل المئات من المستشفيات، وإدخال العشرات والعشرات من الشاحنات المحملة بالمساعدات الضرورية جداً إلى غزة. كان يمكن للخسائر الفادحة التي لا يمكن تخيلها، ذلك أن الأخبار التي تصلنا لا ترقى حقيقة لحجم الأسى والدمار والتجويع والمعاناة والموت العام الجمعي والقنص العشوائي والدفن الجماعي والأمراض والأوبئة المتفشية الواقع الآن في غزة على مرأى ومسمع من العالم كله، كان يمكن لهذه الخسائر أن تكون أقل فداحة، وبالتالي أقل ضرراً بيئياً وأخلاقياً وسياسياً وحياتياً على العالم أجمع.
ماذا لو أن الحكومات العظمى اتخذت موقفاً ولو منتصفاً، فعزرت إسرائيل الصهيونية وقايضتها مصالحها بإيقاف فوري لإطلاق النار؟ ماذا لو أن المؤسسات الإنسانية العالمية صدّرت تقارير قوية وحقيقية حول ما يقع الآن في غزة وأصرت على الدخول واصطفت بعامليها على الحدود الغزاوية صانعة فضيحة سياسية وإنسانية للصهاينة؟ ماذا لو أن الحكومات العربية أعلنته حداداً مستمراً إلى أن يقف إطلاق النار، وشكلت موقفاً جماعياً مقاطعاً لكل الدول المؤيدة لقتلة الأطفال، بسحب سفرائها جميعاً من دولهم وأرسلت لهم سفراءهم غير مأسوف عليهم، وتوقفت ولو مؤقتاً، عن تعاملاتها الاقتصادية معهم، وحجبت ولو وقتياً، نفطها عنهم؟ ماذا لو أن المطبعين تراجعوا بعد وقوع هذه المجزرة الإبادية عن تطبيعهم ولو مؤقتاً، ماذا لو أنهم هددوا بقطع العلاقات أو التراجع عن التطبيع في مقابل، أضعف الإيمان، وقف إطلاق النار؟ كل «الماذا لو» هذه كانت لتنقذ أرواح آلاف الأطفال وتشغل مئات المستشفيات وتحفظ مئات البيوت قائمة فوق رؤوس أصحابها.
لكننا في عالم لا يرحم، عالم يحكمه الدولار والنفط والسلاح، وما الأخلاق والمفاهيم الإنسانية سوى اكسسوارات مؤقتة، يلبسها أثرياء العالم في «السهرات والمزادات الخيرية» التي يغطون بها تشوهاتهم القبيحة. نحن في عالم بلغ تمصلحه أن حتى ما عدنا نطالبه بإحقاق الحق وبإعادة الأرض المسروقة لأصحابها وبمعاقبة المعتدى قاتل الأطفال ومغتصب النساء ومعري الرجال أمام العالم أجمع، نحن في عالم بالكاد نطلب منه موقفاً قائماً على قدم واحدة ليطالب ولو على استحياء، وقف إطلاق النار. إنه هذا العالم، العالم الذي يصرح فيه جو بايدن بأن إسرائيل لا تستهدف المدنيين، ويقف فيه هندي الأصل المستعْمَر الأسبق ريشي سوناك، مؤيداً لاستعمار حالي. هذا العالم المليء بالوقاحة والتناقضات والإسفاف الأخلاقي لصالح المال هو عالم لا يرتجى منه شيء، ولا نطلب له سوى رحمة نيزك، يخلصنا منه.