اللغة العنيفة
أقامت الجمعية الثقافية النسائية قبل أيام مهرجان مشي احتفاءً باليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، وهو يوم مهم يستجلب معه عذابات النساء المعنفات اللواتي طالما صمتن، عن خوف أو خجل أو شعور بالواجب تجاه الأسرة وضرورة ستر مشاكلها. إن صور العنف ضد المرأة عموماً كثيرة ومتعددة، فهناك العنف الجسدي، العنف اللفظي، العنف النفسي الذي يتمثل في التهديد، والعنف الذهني الذي يتمثل في العادات والأفكار البالية الناتجة عن التمييز المستمر ضدها وغيرها من أنواع العنف، إلا أنني أردت اليوم الإشارة إلى أقل أنواع العنف ملاحظة وأكثرها تأثيراً، ألا وهو العنف اللغوي.
تنطوي لغتنا العربية، مثلها في الواقع مثل معظم لغات العالم، على حس عنصري طبقي، يضع المرأة دوماً في أسفل الهرم الاجتماعي، مشمولة تحت جناح الرجل لغوياً، كما هي فعلياً، بذاتها المؤنثة التي تمحى في ذات الرجل لغوياً، فسرعان ما يتم تذكيرها (من الذكورة) وتغريبها (من الغربة) إذا ما أصبحت في صحبته. إن خطابنا “حول المرأة في العالم العربي المعاصر” كما يقول د. نصر حامد أبوزيد في كتابه “دوائر الخوف” هو “خطاب في مجمله طائفي عنصري”، مؤكداً أن هذا ليس “شأن الخطاب الديني وحده، بل شأن الخطاب العربي السائد والمسيطر شعبياً وإعلامياً”، كما ذكرت في مقال سابق. ويؤكد د. أبوزيد هنا أنه حتى في الخطاب الذي يعالج موضوع المساواة، فإنه خطاب يضع الرجل كمثال لتتساوى معه المرأة، أي أن الرجل هو “مركز الحركة وبؤرة الفاعلية”، حتى ليبدو الأمر “كأنه قدر ميتافيزيقي لا فكاك منه ولا مناص، وكأن مرحلة سيادة الأنثى في بعض المجتمعات الإنسانية، وكأن كل فاعلية للمرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية فاعلية هامشية، لا تكتسب دلالتها إلا من خلال فاعلية الرجل” (29).
ولهذا التمييز اللغوي دلالات واضحة ونتائج وخيمة على التقييم الإنساني للمرأة في الوعي العربي الإسلامي. فكما يقول د. أبوزيد، إن من بين دلالات التمييز هناك تاء التأنيث التي بين الجنسين وهناك منع التنوين عن اسم العلم المؤنث كما عن اسم العلم الأعجمي، وتلك هي طائفية وعنصرية لغوية لا ضد “الأغيار فقط بل ضد الأنثى من نفس الجنس كذلك” (30). هذه الأيديولوجية (يؤكد الدكتور) “تمتد لتشكل العالم بكل مفرداته من خلال ثنائية المذكر/ المؤنث… ولا مجال في اللغة العربية للأسماء المحايدة”، هذا بخلاف أن اللغة تعامل جمع الإناث على أنه مذكر إذا كان بينهن رجل واحد فقط “وهكذا يلغي وجود رجل واحد مجتمعاً من النساء، فيشار إليه بصيغة جمع المذكر لا بصيغة جمع المؤنث” (31)، وهذا يذكرني بتجمعات أفراح الزواج عندنا في الدول الخليجية، والتي حين يعلن فيها عن قدوم رجل واحد، تضج القاعة بالسيدات الراكضات في الأنحاء لتغطية شعورهن وإخفاء زينتهن ولبس عباءاتهن، وكأن هذا الواحد يمتلك سيطرة ذهنية وجسدية تامة على جميع الحاضرات.
بالطبع (يؤكد د. أبوزيد) ليس ذلك هو وضع اللغة العربية فقط، ولكن تشاركها في تلك المحنة الأيديولوجية الكثير من اللغات الإنسانية، إلا أن لغات الشعوب الأكثر تحضراً تسعى إلى تغيير أيديولوجيتها الخطابية باستخدام ضمير شمولي they في الخطاب مثلاً، وبتحييد أسماء الوظائف مثل chairperson
وspokesperson (32). لكن لغتنا العربية تقاوم مثل هذا التغيير رضوخاً أمام فكر تمييزي قديم، وهو الفكر الذي أصبح متجذراً عميقاً في النفوس، حتى أصبحت هي العدسات التي نرى من خلالها العالم وبها نرسخ هذه العنصرية أكثر فأكثر في اللغة.
يؤكد د. أبوزيد أن هناك “وعياً متميزاً تمثل في لغة القرآن التي خاطبت النساء كما خاطبت الرجال، بعد أن كان خطاب النساء يتم بطريقة غير مباشرة من خلال خطاب الرجال”، إلا أن هذا الوعي الخطابي القرآني “دخل في صراع مع الوعي الذي تمثله اللغة من خلال الصراع المركب والمعقد جداً على أرض السياسة أولاً، ثم على مساحة الفكر الديني والثقافة العربية كلها بعد ذلك” (36-37). وعليه اختفت المحاولة القرآنية في تحقيق ذات متساوية للمرأة مع الرجل في طيات الظروف الاجتماعية والسياسية للعرب والمسلمين طوال عقود طويلة من الصراعات الطائفية والمذهبية والسياسية، حتى اختفت كينونة المرأة لغوياً تماماً في كينونة الرجل، وتأسست تبعيتها بتجذر عميق.
إن التمييز اللغوي ضد المرأة، والذي يجعل منها “جنساً ثانياً”*، ليس نتاجاً بقدر ما هو مسبِّب غارس لفكرية هامشيتها وانطوائها تحت الجناح الرجولي، وهو انطواء ترسخ منذ القصة الأولى لخلق المرأة من ضلع الرجل، وحتى القصص الأخيرة لعطبها الجسدي في حال قيادتها للسيارة، قصص عطب وتهميش جسدي نؤكدها و”نبصم” عليها كل يوم من خلال لغتنا وثقافتنا ومفاهيمنا المتجذرة. حتى يتغير وضع المرأة، لابد أن تتغير اللغة التي تعبر عنها، وبلا ذلك تظل المرأة معنفة واللغة وسيلة قهر خطيرة.
*الجنس الثاني عنوان كتاب في الفلسفة النسوية لسيمون دو بوفوار