الكثير من الدماء
لم يكن الموت خبراً مفرحاً لي في يوم، خصوصاً إذا لم تدر به الطبيعة، إنما أتى على يدي بشر، فالحروب والإعدامات والاغتيالات السياسية وقوائم المطلوبين أمواتاً أعتبرها جميعاً الطرق «الأسهل» للتخلص من البشر «الأصعب»، من هؤلاء الذين زرعوا الشر والخراب والدمار، لنأتي نحن، معتقدين أننا بالقتل ننهي المشكلة، غير واعين لأننا في الواقع نحصد ما زرعوا، نؤكد استمرار الخراب ونلمّع فكرة الشر، وندمّر دماراً بدمار أكبر.
أدرك أن هذا الحديث مثالي لا يتواءم وطبيعة البشر، فلدي في عقر داري من يذكرني بتناقض حديثي والواقع كل يوم، أيام حرب تحرير الكويت، أتذكر كيف تهافتت دقات قلبي مع كل لمعان تفجير في قلب بغداد تنقله لنا قنوات الأخبار، فتنقبض روحي وينتفض كتفاي فيبادرني زوجي، لا تنظري، هل من حل آخر؟ فأصمت بذل فكرة «ما توكل خبز» على قول القائلين.
عندما اعتقل صدام فرحت انتصارا لصلاح الحل، يعتقل ويحاكم وتعرى دنائسه، فيكتشف العالم أجمع من هو هذا الإنسان البشع، ويعتذر لنا وللبشرية كل من سانده في يوم، ولكن… ما تعرى صدام إلا ليغطيه المخدرون ليوغلوا في تقديس سفاح دموي خطير. انهزمت خطة أمنياتي، وتوج الهزيمة قرار الإعدام على الرغم من طعم التشفي الذي تركه في حلقي، فقط ليأتي صوت الواقعية من زوجي: هل ترين حلاً آخر غير إعدام صدام؟ فأصطدم بواقعية بشعة تتطلب قسوة بمقدار بشاعتها.
اليوم يتداول العالم صوراً لجثث مشوهة تعلي انتصار الخير، كيف ينتصر الخير على جثث البشر حتى لو كانوا أبشع البشر؟ في قلبي، كنت أتمنى لو أنه تم اعتقال بن لادن كما اعتقل صدام، ثم تم عرضه للمحاكمة لنكتب في التاريخ عن بشاعة وإرهاب البشر واستغلالهم لصانعهم في صنع شرور أنفسهم، ثم يحكم عليه بالسجن مدى الحياة في عزلة تحيل ما تبقى من سني عمره جحيماً. لم يتأتَّ الإعدام والاغتيال كنهايتين في خطتي، بل في نهايتها، يكتشف البشر بشاعة الجرائم ولا يردون عليها بجرائم مماثلة، في نهايتها يعتذر المغيبون ويعودون إلى وعيهم، في نهايتها يقرر الجميع أن يدعوا الخلق للخالق، وأن يكفوا عن القتل من أجل إلصاق هوية الخالق بهوياتهم.
ولكن صوت الواقع يأتيني حارقاً قارصاً بأسئلة تنتهي دوماً بأجوبة دموية، العيب فينا على ما يبدو، نحن مخلوقات لا يمكن لها أن تمشي طريق المثالية المبدئية كاملاً فالعراقيل والمخاوف والتهديدات تجعل الحلول الاغتيالية السريعة هي أهون الشرور، إذ لا سبيل لحقن الكثير من الدماء البريئة سوى في إراقة الكثير من الدماء الشريرة، كلهم بشر وكلها دماء، وكل الحلول بشعة مروعة قاتلة لإنسانية يبدو أننا نتحدث عنها ولا نملكها.
لا أقبل الإعدام ولا يمكن في يوم أن أبرر الاغتيال، ولكن واقعيتنا الشريرة تحتمهما، فهل أنا أرفض الشر أم أنني أتفادى الواقع؟ سقط بن لادن مع سقوط فكرة «توظيف التدين العفوي عن طريق تكوين الهوية الجمعية، وتوفير الأمان النفسي ومقاومة الاغتراب» كما شرحها الدكتور خلدون النقيب، سقط قبل أن يسقط مضرجاً بدمائه عندما هبط من أيادي المتظاهرين وغاب عن حناجرهم، سقط مع بزوغ فكرة الديمقراطية والدستورية والمدنية بديلاً للقيادة الدينية الأصولية في تكوين الهوية وتوفير الأمان وتثبيت الانتماء. سقط ولا يمكن أن يقوم من سقطته، فهل كان الاغتيال، الذي كثيراً ما يأخذ أطفالاً وأبرياء في طريقه، حلاً ملزماً؟ أدرك أن منطقي يثير غضب من يرى في الإعدام عقوبة مستوجبة، ومن يرى في الاغتيال حلاً ملزماً، والغريب أن الفريقين يتضادان أحياناً، غير مدركين أن عمق الفكرتين واحد: قتل ودماء أياً كانت التبريرات أو الحجج.
لقد قطع رأس الحية، ولكن سمها لا يزال يجوب جسدها المنتفض، وقد يكون سمها أكثر حروقة بعد أن تم اغتيال الرأس دون فرصة لإظهار بشاعته للواهمين المخدرين. قد يكون حلاً، وقد يكون الحل الوحيد، وها هو بن لادن في أعماق مياه لا يمكنها أن تغسل جرائمه، فلم يحتفل البشر بالقتل حتى لو كان حلاً مستوجباً؟ أليس من الأوجب أن نصمت قهراً على قصور طرقنا؟ أليس من الأشرف أن ننعى قلة الحيلة التي تجعل من القتل حلاً؟ أليس من الأولى أن نتأسى طبيعتنا البشرية التي يمكن أن تصنع وحشا مثل بن لادن، ثم تتطلب توحشاً أشد للقضاء عليه؟ قد نكون قضينا على منبع شر، ولكن حلولنا دموية لا تستحق الفرح، فلندر رؤوسنا تجاه المستقبل: كيف نتفادى بن لادن قادما حتى نتفادى القتل كحل لوجوده؟! هذا هو ما نحتاج إليه اليوم.
«آخر شيء»:
د. خلدون النقيب، تركت فجوة سوداء في القلب، يعمقها وعد بيننا على لقاء سياسي لتشرح لي مقالا صعب علي فهمه، فاغتال موعدنا زمن غادر لا يرحم، رحمك الله وطيب روحك بمقدار جمالها.