القلب قد أضناه هذا الجمال والصدر قد ضاق بما لا يقال*
مازلت أتذكر بوضوح وتفصيل مقلق آخر مقابلة لي مع أحد الأساتذة الذين أشرفوا على رسالتي للدكتوراه، والتي كنت أتحدث فيها عن مشاريعي المستقبلية بعد حصولي على الدرجة العلمية، أتذكر بوضوح سؤال الدكتور الذي أثار حفيظتي في وقتها: «لمَ تعودين إلى مكان يحد من أحلامك وإمكاناتك؟»، فانبريت أصد ما اعتقدته هجوما: «إنه موطني، سأعود مهما كان، ولن تكون هناك حدود لأحلامي على أرضي» واسترسلت متحدثة عن مشاريعي «العالمية» التي سأحضرها لأرض الواقع الكويتي، فأنا سأعمل مع المهتمين بالمسرح على إنشاء مسرح عالمي يقدم عروض البرودواي على أرض الكويت، وسنؤسس لتخصص نقد وأداء مسرحي في الجامعة، غير المشاريع الصغيرة الجانبية التي سأجد الوقت والأموال والحماس لتنفيذها.
مازلت أتذكر تلك الابتسامة المتوارية التي ودعني بها الرجل مغلفة بشيء من الشفقة التي تتهمني «أنت صغيرة وعبيطة»، ما أبعد الأمس عن اليوم، وما أصغر تطلعات اليوم عن الأمس.
انكمشت أحلامي بعد أن تنقعت لسنوات عدة في مياه الركود والتشدد والبيروقراطية، بعد أن فركتها أيادي الحرام والحلال، بعد أن «صوبنتها» مخاوف القبول المجتمعي والمستحيل المادي، وبعد أن نشرتها قطعاً بالية مهادنة حكومية لمناهج التطرف واستحالات تنفيذية لكل المشاريع التي تأخذنا خطوات للأمام في ركب العالم المتحضر ليحترق ما بقي من أحلامي التي أصبحت «تتألق نظافة» تحت شمس لا ترحم.
اليوم أحلامي تنحصر في «إنقاذ ما يمكن إنقاذه»، في الإبقاء على المسارح التي كانت خدمة أساسية عند بناء أي منطقة جديدة في الكويت، فتنشئ الحكومة مستوصفا، جمعية، مسرحا، في حماية بعض الأنشطة الطلابية المسرحية وبعض المحاولات المتفرقة من طغيان المتشددين.
اليوم أحلامي ليس فيها بناء أو تعمير، بل فيها إنقاذ ما بقي واقفاً بتهالك، ويا ويل أمة من تهالك صروح فنونها، فهي عندها ليست أمة مبدعة، ولكنها أمة «معتاشة»، تأكل وتنام و… تموت.
يحكي لي الأصدقاء الذين حضروا مسرحية المبدع سليمان البسام في لبنان، وهي بعنوان «حيال بوطير»، عن مأساوية الفكر السياحي الكويتي، فالمسرحية التي تستهدف الجمهور الكويتي أساساً، والتي يمثل فيها العملاق سعد الفرج، لا يتعدى حضور عروضها عدد أصابع اليد الواحدة، مما استدعى إيقاف العمل قبل الموعد المحدد. يحكي لي بعض القائمين على العمل أنهم، مع عزوف الكويتيين عن الحضور، قاموا بإرسال باصات إلى منطقة بحمدون لنقل الكويتيين إلى مسرح المدينة، حيث المواصلات والعرض يقدمان لهم بالمجان. هذا العرض السخي يقابل بالرفض، حيث يفضل الكويتيون، على ما يبدو، الجلوس على مقاهي بحمدون والتمشي في أسواقها على حضور العرض المسرحي.
ليس هذا قصوراً شخصياً بل مجتمعياً، فالأمة التي لا يدخل في تكوينها المجتمعي والنفسي هذا الجانب الفني والإبداعي المهم، تعزف بمجملها عن التذوق بسبب خلوه من الحافز الاستهلاكي، فهو ليس طعاماً وهو ليس نوماً وهو ليس تسوقاً، هو جانب حسي رفيع لم يدخل في تكوين نفسيات الأجيال الجديدة، فبقي ترفاً مملاً لا معنى ولا مردود له عندهم.
إن لهذا التجويع النفسي الجمالي مردودا مجتمعيا مهلكا، فهو يسبب أنيميا حادة في دماء الإبداع، وهو يسبب جفافا صارخا في المشاعر صانعاً منا أجهزة استهلاكية مخيفة، تشتري وتأكل في نهم مرضي، مهملة تماماً هذه النفس الشفافة الرقيقة المدفونة تحت غريزة الاستهلاك المتوحشة التي يعوض بها الناس حاجات نفسية أخرى موصومة بالحرام إلى أن يصلوا إلى تخمة غير مشبعة، فالشراء لا ينتهي، والأكل لا ينتهي، والنفس لا تزال محرومة فقيرة وجائعة.
نحن الرعية، أصبحنا كما يراد لنا، أجهزة استهلاكية تحتاج للمولات والمزيد من المولات، تحتاج للمطاعم والمزيد من المطاعم، أما المتاحف والمسارح والمراكز الفنية والثقافية فتلك لا تسمن ولا تغني من جوع… جوع أجساد فقدت أرواحها.
آخر شيء: مسرحية عمر الخيام، نصٌّ مقدمٌّ من مجموعة لوياك المبدعة، معدٌّ بقلم الرائعة فارعة السقاف، ومأخوذٌ عن قصة العظيم أمين معلوف، إنه عمل يبث شيئاً من الحياة في أرواحنا الجافة. أملي في هؤلاء الشباب بقيادتهم الخلابة أن يحققوا حلماً على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
يا رب هل يرضيك هذا الظمأ
والماء ينساب أمامي زلال
* من رباعيات عمر الخيام، ترجمة أحمد رامي.