القطنة البيضاء
لم يعد الانتظار ممكناً أو الصبر محتملاً، إنه من بلادة الشعور وإغماء الضمير أن نطالب إنساناً أن ينتظر حتى ينتهي الساسة من التنابز وتقسيم الغنائم ليبدأ هو حياته، ليصبح له وجود حقيقي ولأبنائه جذور وغرس.
قضية “البدون”، اليوم وبعد كل الأحداث الماضية المريضة، قد تكون القطنة البيضاء الوحيدة لتطهير الجرح، لكي نغسل أدران ما مضى، لكي يتطهر الساسة من وعثاء السياسة، لكي نبدأ صفحة جديدة مع رئيس وزراء جديد ومجلس أمة جديد، لابد من البدء بحل جذري ونهائي لقضية أهلنا “البدون” المقيمين معنا على أرض الوطن، فوالله لو صلحت الدنيا كلها، ولو انتهت الفرعيات وتلاشت عمليات شراء الأصوات وحُيّد القضاء واشتد ساعد القانون ومات التطرف واندثرت العنصريات، لو اتسعت الطرقات وغاب الزحام وصرمت يد القيادات وهرمت يد “الواسطات”، لو افتتحت كل المشاريع الجديدة الموعودة وتحولت الكويت إلى مركز اقتصادي عالمي وتجدد مطارنا تحفة معمارية تذهل العقول، لو قرأ أئمة المساجد ونشطت فلسفة العقول وتحرر معرض الكتاب من كل رقابة، وارتقت المناهج الدراسية، وانتهى مشروع الشدادية، لو أصبحت الكويت مدينة فاضلة
ولا يزال فيها “بدون” واحد، فقد سقط فيها المشروع الأكبر، مشروع الإنسان.
لن يطهرنا قطن الدنيا كله مغموساً بكحول الدنيا كله من ذنب بشر يعيش على أرضنا بلا هوية، بلا حقه الأصيل في أن يكون ببساطة إنساناً يأمل في مستقبل. ما تفعله الدولة اليوم في أهلنا “البدون” هو أنها تسلب منهم الأمل في المستقبل، وهذا أشد ما يمكن أن يستلب، فلِمَ يعيش الإنسان، ولِمَ يلتزم بقيم ومبادئ؟ وإلامَ يسعى إن لم يكن لديه أمل في مستقبل؟
أنتظر من كل مرشح في كل دائرة إدراج قضية “البدون” على رأس أولوياته، إدراجاً مرفقاً بحلول واضحة وحقيقية وقابلة للتنفيذ، أريد أن أستمع إلى طرح جريء وواضح مرة واحدة من نواب المستقبل، فإن كنت ترى “البدون” بشراً فأعلمنا بخطتك لإنقاذهم، وإن كنت تراهم دون ذلك فأفصح لنكتشف معدنك عافاك الله، يكفينا ذنب هؤلاء البشر في رقابنا إلى يوم الدين، لا نريد إرفاقه بذنب إيصالك إلى موقع يمكنك من دس إصبعك مغموساً بالملح في عمق جراحهم. لا مهادنة ولا انتظار، سأنتظر من كل مرشح ومرشحة رأياً وحلاً “بالبنط العريض”، ومن يقدم شيئاً نحتاج إلى مكبر لقراءته وفهمه، فسنهاجمه ونحاربه، وإن لم أكن ورفاقي نفقه في فن الحرب شيئاً، ولكن تخوفوا أيها الإخوة من مستحدثي الحروب والعنف من أمثالنا، فانعدام خبرتنا تجعلنا نخبط في الهواء ونشوح بالعصي على غير هدى.
تهديد؟ ليس فعلياً، فلا أنا ولا رفاقي من المهتمين بالشأن الإنساني نمتلك قواعد عريضة ولا سيوفاً مشحوذة، ولكنه تحذير من متعبي القلب، فاقدي الأمل، مهتاجي الجوانح، معصوري الضمير أمثالنا، لم نعد نحتمل تأنيب قلوبنا، لم نعد نستطيع التعامل مع ذنب “التمطيط” والتسويف والانتظار، كبار يعيشون بخواء، وصغار يكبرون بغضب، ومجتمع بأكمله ترتج جوانحه، وكويتيون، عرف عنهم المحبة والكرم والإنسانية، حولتموهم إلى قساة عتاة لا يرأفون حتى بالصغير المقيم خلف أسوار خيطان والجهراء، صغير لم يزر في يوم حديقة الشعب ليلعب لعب الأطفال، يخلو وفاضه حتى من أمل الأطفال بكل بساطته وسهولة تحقيقه.
إننا متعبون، نشعر بالهزيمة وتأنيب الضمير والخوف على المستقبل في ظل دولة تضع مئة ألف إنسان ونيف على مقاعد الانتظار، على هامش الحياة، وخوفكم من فاقدي الأمل المثقلين بتأنيب الضمير، فهؤلاء يصبح طريقهم بلا خريطة، وتهويشهم بلا مأرب، فأعيدوا لنا خريطتنا ودعونا نصمم طريقاً واضحاً نسير فيه، حتى لا نتخبط ويخبط بعضنا بعضا.
“آخر شي”: صغاري أطفال “البدون”، قريباً سيكون لكم أمل ومستقبل، ستؤمون المدارس جميعكم، ولن يزأر كاتب مستوصف في وجوهكم، ستزورون “الأفينيوز”، وتمرحون في صالة التزلج، وستركبون الطائرة وتزورون عوالم جديدة، وتعودون صغاراً من جديد، أنتم القطنة البيضاء التي ستطهرنا وتطيب جراحنا… جميعاً.
“آخر آخر شي”: ما إن انتهيت من كتابة المقال حتى اشتعلت أحداث تيماء ليوم الجمعة 12 ديسمبر، مدرعات وقوات خاصة وقنابل دخانية، عنف واعتقال وتهجم على البيوت، كله متوافر صوت وصورة، وكله لأن إخواننا “البدون” خرجوا أمام بيوتهم المتواضعة في منطقتهم الفقيرة يتظاهرون سلمياً رافعين الأعلام وصور الأمير.
قبح الله زماناً ماتت فيه القلوب، واندسّ فيه الناس خلف حوائط اللامبالاة، وأطفال “البدون” يرتعدون في أحضان أمهاتهم على وقع أصوات القنابل وطرق الأبواب بأعقاب البنادق… السيد رئيس وزرائنا الجديد، أبهذه اللطخة الحمراء تريد أن تبدأ حقبتك؟