العالم «يكركر»
تعيدني ردة الفعل تجاه إقرار اللجنة التشريعية لقرار إلغاء فصل الاختلاط الذي نشر في جريدة “الجريدة” يوم الاثنين قبل الماضي، إلى القرون الغربية المظلمة والوسطى، عندما لم ير الرجال سوى خامة للمتعة في النساء، وهي النظرة التي انعسكت على كل إطارات العلاقات المجتمعية بين الجنسين في ذلك الوقت، وصولاً إلى حد القتل، في محارق الساحرات الشهيرة في القرن السابع عشر، لكل امرأة تخرج عن الطريق العاداتي والتقاليدي المرسوم لها داخل هذه الإطارات المجتمعية.
وبخلاف كل التحليلات التاريخية والاجتماعية النفسية لتلك المحارق التي راح ضحيتها الآلاف من النساء، فإن الخوف البشع الذي كان يطل بوجهه على علاقات الرجل بالمرأة في ذلك الوقت، هو عود الثقاب الأول الذي يبدأ بإشعال النار، فلقد سيطر خوف عارم من ارتفاع صوت النساء مطالباً بحقوقهن وتحررهن مصحوباً بمخاوف تحكم الرغبة في الرجال، رغبة لم يصل بهم الارتقاء المجتمعي للتحكم فيها وتقييدها بإنسانية رفيعة هي ما تحكم المجتمعات الإنسانية المتقدمة اليوم.
لسنا إذن مجتمعاً إنسانياً متقدماً حتى تنخفض عندنا وتيرة مثل هذه الأصوات التي تأتينا في الواقع من أعماق مخاوفها وسوء نواياها، من بشر يعتقدون أن رغباتهم هي كل ما يحكم علاقاتهم بالجنس الآخر، من نفوس حملت معها صلفاً قديماً وضعفاً غابراً ورغباتٍ غرائزية بحتة لم يهذبها الزمن والتطور الإنساني والمعرفة الحديثة التي خلقت في علاقات الجنسين أبعاداً مختلفة تماماً عن تلك الجسدية البحتة.
إن التصريحات التي قرأناها في “الجريدة” على لسان هؤلاء النواب إنما تدينهم قبل غيرهم، تصريحاً بالطريقة التي يفكرون بها لحظة اجتماعهم بالمرأة، إظهاراً للدافع الذي يتحكم في نفوسهم ويحدد علاقاتهم بغيرهم. إن من يقرأ الألفاظ والتوصيفات التي وردت على ألسنة هؤلاء النواب “نشر رذيلة، ضرب فضيلة، خطة خبيثة” تدلل فعلياً على أمراض نفسية مستتبة، تحول الإنسان إلى عبد لرغباته، فلا رادع له سوى منعه التام، وعزله عن كل مصدر رغبة، وفصله عن الحياة لأنها تحمل الإغراءات في كل خطواتها. إن أمثال هؤلاء النواب هم فعلاً من يحق عليهم العزل والفصل، هم حقاً مصدر خطر، لأنهم يؤمنون تماماً بضعفهم أمام غرائزهم، يعتقدونها تغلبهم في أي موقف، فيسقطون ذلك على كل من حولهم، ليمرضوا مجتمعاً بأكمله بأمراض الشك والرغبات الطليقة والتفكير المنحصر في الجسد ولا غيره.
إلا أنني لا أعتقد حقيقة أنهم جميعاً يشكون ذات المرض، فهناك منهم من يشكو نوعاً مغايراً وإن كان بذات الخطورة والخبث. هناك مرض النفاق الذي يجعلهم يرصرصون كلمات الفضيلة والقيم والتقاليد لإرضاء قواعدهم الانتخابية بينما في حياتهم هم يعيشون بشكل مناقض. عسكر العنزي على سبيل المثال، رجل لطيف المجلس، أذكر اجتماعي به مرة أو مرتين في جمعية حقوق الإنسان، عندما كانت قضية “البدون” إحدى “الدعائم الانتخابية” له، وإحدى المرات، كنا سيدتين فقط معه في غرفة الاجتماعات، يعني اختلاط وشبه خلوة، وقد كان لطيف الحديث، ضاحك الثغر، مصافحاً لنا باليد على ما أذكر، إلا أن هذا الوجه لا بد له أن ينقلب، ولا بد للضحكة أن تتعكر وللعيون أن ينطلق منها الشرر وللفم أن تنطلق منه “أردأ الملافظ” حتى يتحول إلى المحافظ على القيم والعادات والدين أمام القواعد الانتخابية التي ستعيده لجنة المجلس. أؤمن تماماً بحق الإنسان في اختيار تعليمه وتعليم أبنائه، وأعتقد بأهمية توافر نوعي الدراسة، المشتركة منها والمنفصلة، ليختار الطلبة وآباؤهم وأمهاتهم منها ما يناسب توجهاتهم وعاداتهم وما يريح نفوسهم، هذا بلا شك حق لا مساومة عليه. إلا أن الخطاب الرديء الذي خرج من أفواه النواب، هذا ما يحتاج إلى تعامل ومعالجة، خطاب مريض، يتهم جيلي ومن سبقه جميعاً بأبشع الاتهامات، حيث درسنا جميعاً في جامعة الكويت، مشتركة الدراسة في وقتها، خطاب يسر للجيل القادم بأن الرغبات والشهوات هي كل ما يحكم علاقاتهم، يعزز فكرة الضعف والاستسلام بينهم، يعلق هذا الشعور وكأنه غبار لزج يمر بينهم أينما كانوا، في السوق، في عيادة الطبيب، أو حتى في الزوارة في بيوت أهلهم.
ذهب مجلس “الأربعة أصوات” وجاء مجلس “الصوت الواحد”، فما تغير؟ أي رقي في الخطاب، أي عقلية تبدلت؟ أي نوعية نواب اختلفت؟ ليت أزمتنا أزمة عدد أصوات، ألا ليتها كذلك.
«آخر شي»:
لم يعد الزمن يحتمل خطوة للأمام وخطوة للخلف، أن تقر اللجنة قرار إلغاء قانون فصل الدراسة هو خطوة للأمام، أن تقر بفواصل في الفصل المشترك كمحلل وغطاء للفكرة، فتلك خطوة للخلف، نحتاج قراراً شجاعاً وثابتاً لا يترجى تبريراً أو غطاءً… كفانا، “ضحكنا العالم علينا”.