العائلة الكبيرة
أكتب هذا المقال من القاهرة الوضاءة، كنانتي التي أعشق ومرتع طفولتي وصباي. لكن الزمان غير الزمان والأحوال غير الأحوال، الكثير تغير إلا الأحزان، بقيت مثلما هي تلك الأحزان. لي أكثر من ثلاث سنوات لم أزر القاهرة، بعد كبير هذا بالنسبة لي، ورغم أن الأصوات في الشوارع والقهقهات على المقاهي والحوارات الصارخة عبر الشرفات بقيت هي ذاتها، إلا أن هناك قسوة ما تغطي وجه كل شيئ، قسوة معاناة وغياب الشعور بالاستقرار.
صاحبني شاب بسيارته إبان رحلتي بإصرار من والدتي التي لم تكن لتتركني “أتلطم” في الشوارع، فكانت صحبة هذا الشاب من أجمل الأوقات وأكثرها نفعاً وتثقيفاً. سألته عن الأحوال، فذكر مشكلتين سمعتهما يترددان بعد ذلك من كل من تبادلت الحوار معه أياً كانت طبقتهم الاجتماعية أو موقعهم الحياتي، المسن الذي باعني فضته المزخرفة بالكلمات في خان الخليلي، النادل الذي قدم لي الشاهي في أحد مقاهي الحسين، السيدة التي مسحت أرضية حمام المول، الشابة التي “رونقت” أظافري والشاب الذي صنع لي “فورمة” شعري في صالون نسائي راقي، كلهم نعوا الأسعار واشتكوا “الكباري” التي “لا يمكن أن نأكلها ونشربها” على حد تعبيرهم.
“نعم عاد الأمان للبلد، وأصبحنا مؤمنين على سلامتنا الجسدية” قال الشاب سائق السيارة، لكن “محدش يقدر يفتح بقه دلوقت.” وهل الأمان يسوى “قفلة البق” هذه؟ سألت أنا. “نعم أكيد” أتى جواب الشاب، والذي بدا جواباً مفهوماً ومستحقاً ويستحق كل التعاطف، فلا يعرف قيمة الأمان وأهميته إلا من فقده، ليتحول الأمان هذا إلى أغلى ما يمتلك الإنسان، ولكن إلى حين. ترى إلى متى سيبقى المصريون قادرين على “قفلة البق؟”
“البلد اتملى كباري” قالت الشابة التي قلمت لي أظافري، “ماذا نصنع بكل هذه الكباري؟ حناكلها والا نشربها؟” أكملت هي بغضبة مفاجئة “عندي ولد عمره سنتين، أريد أن أؤمن له الحياة، أفكر جدية بالهجرة.” لم يتغير الكثير، فكرت أنا، ها هم المصريون لا يزالون يفكرون بالهجرة، ينتظرون إعارة أو عقد عمل. متى يا ترى ستؤتي الثورة ثمارها؟
“إلي يتكلم في الفيس بوك يختفي” قال لي الشاب الذي صفف لي شعري، “لم يعد أحد قادر على الكلام يا مدام، ولم يسبق أن وصلت قفلة البق لهذا الحد.” البلد يدار عسكرياً، قلت له، وهذا هو الأسلوب العسكري وهذه هي طريقة إدارة الجيوش، أسلوب وإدارة يتطلبان الطاعة التامة والتسليم الأعمى. “بس إلا الجيش، هو إلى حامينا وهو إلى أنقذ البلد” قال الشاب. فتأملت في العلاقة الخلابة بين المصريين ومؤسسة الجيش. في كل بيت مصري عسكري أو ضابط، مما يجعل المؤسسة العسكرية أبعد من مجرد مؤسسة دولية، هي عائلة كبيرة في مصر الولاء لها لا يتعداه ولاء.
سخن الكلام وبدأت أنا أمشي على قشر بيض الحديث حين تطرقت لثورة 25 يناير ثم لتحرك 30 يونيو الذي لم يحسمه أحد ممن تحدثت معهم كونه ثورة أو انقلاب، لتشكل الكلمة الأخيرة، انقلاب، درجة مرتفعة من الحساسية حتى أن المؤمنين بها كانوا يتجنبون نطقها. الشاب سائق التاكسي أكد لي أن الشعب كان بطلاً في خروجه يوم 25 يناير وكان معذوراً في خروجه يوم 30 يونيو، “لكنه يبقى انقلاب” قالها بصوت منخفض. تذكرت المشاهد التلفزيونية لحدث 30 يونيو وإعلان الجيش أنه يحقق إرادة الشعب وأنه لن يكون أبداً طرف في الانتخابات، ثم تذكرت النهار الذي أتى ليمحو كلام الليل، لتظهر الحقيقة بعد أقل من 24 ساعة من 30 يونيو. تذكرت فرحة 25 يناير وارتباك 30 يونيو وفوضى وأحزان رابعة 14 أغسطس، هذا الحدث الدموي الذي ضرب إسفيناً عميقاً في الذاكرة المصرية.
على سفرة مائدة عائلة مصرية كريمة استضافوني على وجبة غداء عامرة، دب نقاش ساخن حول إدارة الرئيس السيسي، ذكرني انقسام الرأي وأوجاع الاختلاف واحمرار الوجوه وغضبات العيون بانقسامات العائلات الكويتية في حراك المشاركة والمعارضة، هذا الحراك الذي شرذم الكويتيين منذ 2012 بين مشارك ومعارض وأجج الكثير من النيران في جنبات علاقاتهم. اليوم الكويت تخطت، إلى حد ما، الانقسام المتأجج هذا، لكنها أبداً لم تتعد مخلفات الموقف الذي أصبح يشكل علامة فارقة في تاريخنا.
تأملت من خلف زجاج السيارة الجسور التي ملأت القاهرة متسلقة فوق بعضها البعض، متعدية على حق الناس في رؤية امتداد الأرض وأحياناً زرقة السماء، تجولت بين المولات الفاخرة المليئة بالمتاجر العالمية، زرت متحف المومياوات الراق الصغير، تجولت في الحسين الذي تسور ضريحه بسور ضخم ممتد منع العبور السلس الذي كان وصولاً للمحلات والمقاهي، كل شيئ يشير لإدارة صارمة قوية عسكرية، إدارة مصرة على تجميل الوجه وتغيير المنظر، ولكن ماذا عن الداخل، ماذا فعلت هذه الإدارة للإنسان المصري لا للسائح الأجنبي؟
في الكويت الآن تم اعتقال عدد من الكويتيين وعدد من عديمي الجنسية بسبب اعتصام سلمي قاموا به مشتركين من أجل حقوق عديمي الجنسية المنتهكة لها الآن أكثر من خمسين سنة. تصلني هذه الأخبار فيم أنا أتسمع شكوى الناس هنا عن “البق المقفل” وعن السجون المليئة وعن الفيس بوك الذي أصبح أخطر من أعمال الجاسوسية، لتخطرني فكرة أننا نعيش في معسكر كبير إسمه الشرق الأوسط، هنا وجه ألين وهناك وجه أشد، هنا يضربون بيد من حديد وهناك بيد من مطاط، لكننا كلنا في الهم شرق، كلنا نحيا في معسكر كبير يدار بفكرة السيف وبتسليط البندقية، تستقر لحكوماتنا سلطتها بالخوف وتسري حيواتنا ويستمر عيشنا بالرغبة الملحة في الأمان وكسب العيش.
الديموقراطية “لا تنفعنا” حسب ما يكرر اليائسون، لذا، نحن لا ننفع للمشاركة في صنع القرار، نحن فقط نسعى لان نؤمن حيواتنا ولأن نتفادى الخطر، متأملين الجسور الصاعدة والمتاحف الناشئة والأسواق التي ملأت بلداننا كأنها سجون كونكريتية ضخمة موزعة في جنباتها، مستمعين لكلام حكوماتنا، مرددين، آمين. هذا حال من المحال أن يستمر، فماذا ينتظرنا في القادم من الأيام؟