الصحوة القاتلة
نكأت عودة طالبان المرعبة المريبة الكثير من الجراح الدامية.. جراح بعد ما اندملت. هي عودة ذكرت بخسارات هائلة وعلى كل الأصعدة. الخسارات الأعظم هي بلا شك خسارات الأرواح والحيوات، حيوات تدهورت وظروف معيشية تردت ودولة كانت ظروفها صاعدة فهبطت أسهمها على كل المستويات.
إلا أن صعود المد الديني السياسي في أي منطقة لا يتلازم وفقد الأرواح فقط، هو كذلك يخلف خسارات اجتماعية وثقافية هائلة يمكن أن يفعِّلها ذلك النظام المتطرف، وهو سيكون متطرفاً بلا شك، في أسابيع أو في شهور، ليحتاج المجتمع الإنساني بعد ذلك لعقود، وأحياناً لقرون، ليقاوم تأثيرها وليطبب جراحها العميقة الغائرة.
في مقرر “الفن والأدب” الذي أدرسه في جامعة الكويت، عادة ما أستعرض مع طلابي مفهوم Iconoclasm، أو “تحطيم الأيقونات” وهو مفهوم ذو جذور عميقة في التاريخ البشري، ورغم أن أشهر الأمثلة على هذا المفهوم في زمننا المعاصر إسلامية، إلا أن التفعيل الحقيقي للمفهوم كان مسيحي المصدر.
ويقول الكاتب مارك غيتلين في كتابه “الحياة مع الفن” أن المصطلح في الواقع مشتق من كلمة إغريقية تعني “تحطيم الصور” وأنه تم تداوله في البداية توصيفاً لحوار دار في الإمبراطورية المسيحية البيزنطية. ففي القرن الثامن، قامت حركة مسيحية مناهضة للتعبئة الفنية التي كانت تعج بها الكنائس بحجة أن هذه الأعمال الفنية، خصوصاً التماثيل، قد تشجع على الوثنية، مما حدا بعدد من الأباطرة بإعطاء أوامر بتحطيم هذه الأعمال الفنية في أنحاء الإمبراطورية.
وتجددت هذه الحركة في القرن السادس عشر في أوروبا الغربية مع ظهور الحركة البروتستانتية، مما حدا بالبروتستانتيين لمهاجمة الكنائس وكسر زجاجها المرسوم الملون وتحطيم اللوحات والتماثيل وإذابة الأوعية والأضرحة المعدنية وإخفاء اللوحات الجدارية بمسحها بمادة كلسية بيضاء تغطيها بلا أمل في إزالتها لاحقاً.
وإلى اليوم، يذكرنا غيتلين، تحتفظ الكنائس البروتستانتية بمظهرها الأجرد هذا، الذي يمكن ملاحظة اختلافه الشديد مع المظهر الكنائسي الكاثوليكي غني التزيين.
إلا أن الكارثة “الأيكونوكلازمية” المعاصرة إسلامية بامتياز، وتتمثل أفظع أمثلتها في تفجير طالبان إبان “صحوتهم” الأولى للتماثيل البوذية في أنحاء أفغانستان، خصوصاً تفجير التمثالين العملاقين المحفورين في أحد جبال المنطقة، الذين تم صنعهما ما بين القرنين الثالث والسابع ميلاديا.
ويوضح غيتلين أن هذين التمثالين كان يرعاهما سابقاً رهبان بوذيون وأنهما كانا مزاراً للحجاج منهم. إلا أن كل ذلك انتهى منذ قرون وبقي هذان التمثالين كذكرى من ماض بعيد. بدا للعالم أنه من المستحيل أن ينفذ الطالبانيون فكرتهم المنكرة تلك، إلا أنه، كما يؤكد غيتلين، في أوائل مارس 2001 “ورغم الجهود الدبلوماسية العالمية، تم تحطيم التمثالين” (غيتلين 54).
مصاب أفغانستان في بشرها وفي نظامها الاجتماعي أخطر وأعمق بلا شك، إلا أن مصابها في عمقها الثقافي أطول عمراً وأبعد ديمومة. كثيراً ما تنتقم الأنظمة المتطرفة من مجتمعاتها وتروضها بالضرب في أعماقها الثقافية وبتحطيم كل توثيقاتها المجتمعية، خصوصاً الفنية منها، ذلك أنه لا يوجد توثيق أقوى وأعمق وأطول عمراً من التوثيق الفني والأدبي. كتب التاريخ تكذب، والسير التوثيقية تجامل.
فقط الفن والأدب هما المجالان القادران على الاحتفاظ بالعصرة الحقيقية الطازجة لرحيق المجتمع البشري، ولذا فهما عادة الهدفان الموعودان بالهجمات الشرسة المتطرفة التي ترمي لإخفاء ثقافة ما، وإحلال أخرى جديدة بمقاييس جديدة محلها، لتصبح الأولى وكأن لم تكن.
احرق الكتب، حطم التماثيل، دمر اللوحات وبقية الأعمال الفنية، تدفن مجتمعاً كاملاً عن بكرة أبيه في مقبرة مجهولة في غياهب التاريخ.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن أعظم مصدر توثيقي لمجتمع هو في الواقع مقبرة فنية لمدينة بومبي الإيطالية التي طمرها بركان هائل سنة 79 ميلادية، لتستمر راقدة بأكملها في مقبرتها لمدة 1600 سنة ولتظهر لاحقاً في القرن الثامن عشر ككنز معرفي ليس فقط لمدينة إيطالية تاريخية، ولكن للمجتمع البشري ككل.
ولأن الحزن بالحزن يذكر كذلك، لابد لنا أن نتذكر أن التحطيم الأيقوني لا يطال الأعمال الفنية الجامدة فقط، ولكن حتى التكوينات الفنية البشرية منها، فها هي داعش حطمت فضل شاكر، سارقة من مجتمعه ليس فقط إنتاجه الفني المستقبلي المحتمل ولكن كذلك إرثه الفني السابق الذي كان ذات يوم محبوبا ومرغوبا.
طالت يد التطرف ليس فقط التماثيل واللوحات والمصنوعات الفنية بأنواعها، ولكن كذلك الصياغات البشرية الفنية، الأرواح المبدعة، لتحول فناناً مبدعاً مرهف الحس لآخر كريه عنيف لا يستحي أن يستبدل عوده أو ميكرفونه ببندقية أصولية قاتلة.
أحد الأشياء التي سرقت مني شخصياً هي محبتي لفضل شاكر وقدرتي على الاستماع لأغانيه. لم أعد قادرة حتى على مجرد سماع صوته الذي كلما طرق أذني شممت معه رائحة الدم الزنخة.
وإحقاقاً للحق لابد من ذكر أن التصرفات “الأيكونوكلازمية” لا تقتصر على الحركات المتطرفة دينياً (وإن كانت إحدى تعريفات الكلمة الأكثر شيوعاً مرتبطة بالمفهوم الديني لتحريم التماثيل خوفاً من تأليهها)، هي امتدت كذلك للحركات الفاشية الدموية، التي تمثل أشهرها فيما قام به هتلر من ملاحقة الأعمال الفنية الحداثية، كراهية في الفن الحديث وانتقاماً من مريديه ومؤسسيه.
وبسبب تلك الهجمة الفاشية الشرسة، لا يزال إرث بشري هائل لا يقدر بثمن ضائعا تماماً، نعرف بوجوده في سراديب أو بيوت أو مخازن سرية لجأ إليها محبو الفنون آنذاك في محاولات مستميتة لإخفاء هذه الأعمال عن الأعين الفاشية، ليبقى فيها مخفياً تائهاً إلى اليوم.
حالياً، لا تزال كميات كبيرة من هذه الأعمال ضائعة، لا نعرف عن مصيرها شيء، ومعها جزء كبير من حكايتنا البشرية، تلك الحكاية التي أصبحت مليئة بالثغرات المظلمة نتيجة لهذه الحملات المجنونة على تراثنا البشري الإنساني. وها هي حملة قادمة تلوح لنا “بسيفها البتار”.. فهل سيقف العالم مكتوف الأيدي إزاء هؤلاء البشر المنكوبين، وتاريخهم المهدد بالضياع؟