الدولة الكسيحة
قبل سنوات كثيرة كانت لي مقابلة على تلفزيون الكويت أتحدث فيها عن فساد تجارة الإقامات في البلد، وفي عارض انفعالي في طرح جوانب هذه المشكلة المستعصية، عقب الضيف الآخر في الحلقة، الذي هو نائب سابق، قائلاً: «حلي مشكلة فلسطين كذلك!» صمتُّ لوهلة ونحن على الهواء مباشرة، لم أكد أصدق أن نائباً في مجلس الأمة أولاً يعترف ضمنياً بحجم مشكلة تجارة الإقامات ويقر باستحالة حلها رغم كونه في موقع تشريعي قوي، وثانياً يشير إلى القضية الفلسطينية على أنها المثال الأكبر لاستعصاء الحل.
والحق يقال أن هذه الجملة ليست بغريبة على مجتمعاتنا العربية، أصبحت جملة «حلوا القضية الفلسطينية» تسخدم مجازاً للتعبير عن استعصاء المشكلة واستحالة الحل، وكأننا وعبر اللغة وجملها المأثورة، نعزز هذه الفكرة القميئة لاستحالة إحقاق الحق في هذه الدنيا، كأننا قد استسلمنا «ثقافياً» للباطل وسلمنا «نفسياً» لطغيان أقنعنا أنفسنا أن لا مفر منه. لم يا ترى أسلمنا لغتنا وعقولنا سريعاً لهذه الفكرة المهينة؟ أترانا تمسكنا بفكرة تريح البال والضمير من باب أن لا شيء حقيقة يمكن تقديمه للقضية بسبب من استحالة حلها، مما يحررنا من ثقل العمل ويريح ضمائرنا من عذاب الإقرار بتخاذلنا؟ أترانا أقنعنا أنفسنا أن الإقرار بالاستحالة هو ضرب من «البراغماتية» التي إن دلت فإنما تدل على «حجم واقعيتنا في تقييم الأمور». البرغماتية والواقعية اللتان لا تظهران في عالمنا الشرق أوسطي إلا عند تقييم القضايا التي تتطلب عملاً وجهداً وإنفاقاً وصموداً على المواقف المبدئية الموجعة؟ أترانا، بهذه الجملة، نعلن بلا خجل ولا وجل، أننا لم ولن نستطيع شيء، فمن باب أولى أن نوفر على أنفسنا الإقدام على «محاولة فاشلة»؟
اللغة تصنع الواقع، ونحن صنعنا واقعاً للقضية الفلسطينية لا يجب أن يكون، لا يفترض أن نقبله، دع عنك أن نؤكده ونعمقه. لقد احتلت بريطانيا الهند احتلالاً عسكرياً بشعاً استمر مئة وخمسين عاماً، ارتكبت خلاله «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» أبشع الجرائم في حق الشعب الأعزل الضعيف، إلا أن التحرير أتى، وأتى على يد رجل حافي القديمين، ضئيل الجسد، متبنّ لسياسة المقاومة السلمية، فهل يا ترى سمحت دول شرق آسيا لنفسها أن ترسخ «واقعية» استحالة زوال الاستعمار البريطاني عبر جمل مثل «ابقى قابلني، إذا الهند تحررت!»
دول وشعوب كثيرة بقيت تحت نير احتلالات بشعة، كان المحتلون إبانها قوى عظمى مرعبة، إلا أن الإرادة والإيمان بالموقف حققا ما كان يبدو معجزة، لتتحرر الشعوب ولتعود لها إراداتها الكاملة. هذه النهاية السعيدة ليست قدرية لكل الأمم بالتأكيد، فهناك خسائر بشرية مشينة في تاريخنا هي مما يستدعي خجلنا من جنسنا، إلا أن الأمثلة الإيجابية أكثر، والزمن الحالي أفضل، والاتساع الإعلامي والقدرة على إيصال الصوت والصورة جعلت المهمة أسهل، وكل ذلك يخدم قضيتنا العربية الإنسانية الأولى، فعلام هذا الانهزام المخجل وذلك الاستسلام المهين؟
لقد مرت اليابان بإحدى أفظع وأعنف التجارب الحربية البشرية وقامت منها، وكذلك مرت ثم فعلت الصين على مدى أزمنة عدة، ولقد «تبعثرت» المكسيك على يد الاحتلال الإسباني، وتداعت إسبانيا على يد «الفتح» الإسلامي، وهذه الأمثلة بعض قليل من كل لا حصر له. لكن الإصرار، بغض النظر عن الرؤية الثيولوجية أو العقائدية، حقق للشعوب النصر المبدئي الذي يرومون، فلماذا نحن مستسلمون منذ البداية؟
«إسرائيل» دولة هشة لأنها قائمة على فكرة دينية، وهي فكرة أضف لعدم موضوعيتها البشرية، غير مُتَّفق عليها حتى بين أصحابها، وهي هشة لأن مؤسسيها في الواقع لعبوا على وتر الدين دون أن يؤمنوا فعلياً، وهي هشة لأنها دولة تمييز عنصري وتطهير عرقي، (وهل استمرت دولة كهذه عبر التاريخ مهما بلغت من قوة وتسيد؟) وهي هشة لأنها تعتمد بشدة على علاقاتها مع «الأسياد» و»الأسياد» يتغيرون، وينقلبون ويتقلبون. تتغير الولاءات وتتبع المساعدات والمساندات المصالح، فإذا كانت الدولة قائمة على ركبتين من هكذا مصالح، فتلك لا أسهل من خلخلتها، وإذا كانت مستندة إلى ساقين من التبرير الديني، فتلك لا أسهل من حلقها لإظهار الجلد الحقيقي أسفلها، وإذا كانت معتمدة في صنع شعبها ومجتمعها على دعوة «غرباء» ليأتوا إلى أرض لا يعرفونها ليُجبروا على أن يحبوها ويخلصوا لها ويعاملوها كوطن «فنقبهم سيطلع على شونة» ولا أقوى مثالاً على هذا «النقب» الضائع من الموقف الذي شهده العالم مؤخراً حين بدأ «الإسرائيليون» يفرون من أرض لا يعرفونها ولا رابط لهم بها سوى حكايات أسطورية ووعود خرافية لم تثبت أقدامهم أمام حجارة الأطفال وصرخات الشباب وابتسامات الفتيات المعتقلات.
قالها يعقوب: «إن لم أسرقه أنا، فسيسرقه غيري» لكن بيوت فلسطين المسروقة تلك كلها ستنقلب جمراً حارقاً على أجساد «الحرامية» الذين لن يتحملوا، لأنهم لم يستثمروا، لم يخلقوا تاريخاً وولاء وحباً، لم يعرفوا عمق العلاقة بين الأرض والروح، هم عقدوا صفقة وتبدو لهم اليوم خاسرة، فما الذي سيبقيهم؟ لديهم ألف سبب للمغادرة، ولدى الفلسطينيين سبب واحد للبقاء يَجُبُّ آلاف الأسباب والمسببات، فإذا فهمنا هذا السبب، سينتعش فينا الأمل وسنغير الجملة من «هذا إذا تحررت فلسطين» إلى «هذا حين تتحرر فلسطين، وسيكون ذلك قريباً».