الحقيقة المكروهة
تكلم الدكتور محمد قاسم، العالم الكويتي الرائع والإعلامي «العلمي» البارع الذي جعل من العلوم مادة مشوقة متوفرة للعامة، في محاولة منه لرفع شعبية العلوم بين الناس، حيث له تطبيق «برودكاست» شهير خاص به اسمه «السايوير»، يقدم من خلاله حلقات علمية قصيرة خلابة. أقول تكلم الدكتور في حلقة من «السايوير» بعنوان «إرجاع الديدان إلى الحياة بعد تجمدها لمدة 40,000 عام» حول تجربة مبهرة، «أرجع من خلالها علماء روس ديداناً خيطية تم اكتشافها حول نهر ألازيا، وكانت تحت الأرض بعمق 3.5 متر، واحتفظ بها العلماء منذ سنة 2015 عند درجة حرارة -20 درجة مئوية. بدأ العلماء بعدها برفع حرارة الديدان على مدى أسابيع، ووضعوا بجانبها الطعام المناسب، وإذا بها تتحرك تدريجياً ثم تعود للحياة مرة أخرى، واستطاع العلماء جعلها تتكاثر لتكرر نفسها»، حسب وصف الدكتور الذي اقتبسته هنا بشيء من التحرر. في البداية، كتب الدكتور حول هذه التجربة في «تويتر» لتثور ثائرة القراء الذين وصله منهم ردود أفعال مبهرة في ظلاميتها وسوء تعابيرها، وصولاً إلى شبه التهديد الذي وصله في رسالة خاصة. قرر بعدها الدكتور أن يقدم حلقة كاملة مسموعة، كما ذكرت أعلاه، لتكون له الفرصة لشرح الموضوع باتساع أكبر.
تكلم الدكتور، في حلقته، عن صعوبات تعريف الحياة والموت، وأن هذه الضبابية هي أحد أهم ما يثير سخط الجمهور الذي لا يقبل، بسبب من الحساسية الدينية، مفهوم العودة للحياة بعد الموت. ناقش الدكتور في الحلقة معنى الموت وتعريفاته، فطرح السؤال المهم: هل يُعتبر تجمد الديدان لمدة أربعين ألف سنة دون أن يتحرك فيها شيء أو تظهر لها أي بوادر حياة-موتاً؟ يقول الدكتور إنه لم يجد تعريفاً واضحاً للموت، خصوصاً «إن تحدثنا عن الإنسان» كما يقول. أوضح الدكتور أن تعريف الموت بتوقف القلب استشكالي إلى حد كبير، ذلك أن الطب تمكن الآن، بالتطور العلمي، من إعادة القلوب المتوقفة للدق بعد فترات تعتبر طويلة من الزمن. وماذا لو تطور الطب فتمكن الأطباء من إعادة تفعيل القلب بعد عشر ساعات من توقفه مثلاً؟ يتساءل الدكتور، هل سيعتبر الإنسان أنه قد مات ثم عاد للحياة؟ ماذا عن الأشخاص الذين يستبدلون بالقلب البيولوجي اصطناعياً في المستقبل، هل سيعتبرون ميتين؟ يعتبر الدكتور أن تعريف الموت بتوقف الدماغ هو تعريف أدق، وإن كانت مشكلة وضوح التعريف لا تزال قائمة. يستمر الدكتور في تقديم سيناريوهات كثيرة حالية ومستقبلية، مثل: ماذا لو تمكن الأطباء من تركيب رأس شخص على جسد شخص آخر، وهي عملية يسعى الأطباء حالياً لإنجازها، وهي في الواقع قد أنجزت منذ فترة على كلب عاش لمدة قصيرة بعد أن نقل أطباء روس الرأس له، من سيعدّ ميتاً ومن سيعدّ حياً، صاحب الجسد أم صاحب الرأس؟ هناك تجربة أخرى أبقت على رأس كلب حياً لمدة ساعات عن طريق أجهزة، هل يعدّ هذا الحيوان حياً أم ميتاً في هذه الحالة؟ يتساءل الدكتور، «كيف سنستقبل مثل هذه الأخبار؟ هل سنغير تعريف الموت؟»، يقول الدكتور إن الردود التي أتته لم تضع في الاعتبار تعريف الموت، أو أن الردود أتت اعتماداً على مسبقات كبر الناس على سماعها دون التفكير في مضامينها، فالناس لم تتعود على «البحث والتفكير المنطقي الشكوكي». الدكتور يقول إنه يريد «مجتمعاً واعياً ينبض بالحياة بدلا من مجتمع جاهل ميت».
بعيداً عن كل تلك البحوث والتساؤلات العلمية الخلابة، هناك تساؤل فلسفي آخر: ترى ما الذي أثار غضب الناس من مجرد نقل الدكتور للمعلومة العلمية؟ الدكتور لم يخترع شيئاً من رأسه، وهو لم يقم حتى بالتجربة ذاتها. كل ما فعله الدكتور محمد هو أنه شرح التجربة وقدم الجانب العلمي لها، فما الذي يستدعي هذه الغضبة المظلمة العميقة؟ يستشعر الناس دوماً، ومع كل خطوة تطور علمي جديدة، بتهديد ساحق لشرعية الأفكار في أديانهم، دون أن يتدبروا فعلياً أن من يهدد هذه الشرعية هم ذاتهم؛ برفضهم تجديد القراءات وبدحضهم كل محتوى تاريخي للسرديات الدينية. يغضب الناس من تجربة يمكنها أن تشككهم في القراءات الدينية التراثية القديمة التي اعتادوها واستراحوا لاستتباب معانيها، فما أن يأتي اكتشاف جديد يحرك مياه العقل الراكدة، مفعلاً التفكير في الموروثات والمسلمات، حتى تثور ثائرة الناس غضباً تجاه إخراجهم من حيزهم الآمن وسكونهم العقلي المريح.
لا أنكر أبداً ثقل التغيير، حتى أعتى من يؤمن منا به وبسنته الحياتية، يعاني منه ويكره المرور بتجربته. ولا أنكر مطلقاً تعذيب الصراع النفسي الناتج عن الجديد الذي يسائل القديم ويشكك في موروثاته وثوابته، فليس هناك منا من يستمتع بالتشكيك في ثوابته، وبالتالي الاضطرار إلى إعادة تقييم وتشكيل أفكاره وقراءاته. إلا أن تلك ليست اختيارات، فإذا ما كشفت الحياة أشياء جديدة، وإذا ما أنجز العلماء خطوات إعجازية، أنغضب من الحياة وعلمائها لاكتشافهم الجديد ولتمكنهم من إنجاز ما تقول موروثاتنا باستحالة تحقيقه؟ أنسخط على تطور ما كنا نتوقعه؟ أنعادي الحقائق الجديدة المكتشفة والمثبتة لمجرد مخالفتها «لحقائقنا» القديمة؟ ما ذنب التطور والاكتشافات؟ وهل الخطأ في حدوثها أم في اكتشافنا لها وحديثنا عنها؟ أكان يجب أن نمثل أنها ما حدثت حتى نجنب أنفسنا عناء التفكير والتغيير والتعديل؟
الحياة ستتطور، والعلماء سيكتشفون، والعلم سيصل إلى مراحل غير مسبوقة، فماذا نحن فاعلون؟ نبقى ننزل جام غضبنا على الدكتور محمد ونحمله إثم تعريفنا بما لم يجب أن نعرفه، أم نواجه الواقع ونغير القراءات والمفاهيم؟ بالمنطق إذن، ما الحل؟