الحصان الطائر
أحيانا كثيرة نبدو وكأننا دولة تعاند نفسها، تعلن أهدافها ثم تسعى إلى تحقيق عكسها. كان الهدف أن نصبح مركزا ماليا، فعقّدت حكوماتنا المتعاقبة الأمور وعطلتها بالروتين والأوراق التي ما إن تبدأ في استخراجها حتى لا تنتهي أبداً، ثم زادت على ذلك فمنعت كل وسائل الترفيه ومظاهر الابتهاج، وربطت الاحتفالات بقيود هزلية، وحدّت من حريات الناس حتى أصبحت الكويت الجميلة مكانا طاردا، وحتى عمد من أخذه حظه لعقد صفقة في الكويت إلى اللقاء خارجها عند بعض دول الجوار التي تمكن هؤلاء من إقامة مريحة وأجواء مبهجة.
أردنا أن نكون بلد الديمقراطية والمشاركة الشعبية الحقيقية، فصيغت المراسيم وبدأت الحريات السياسية والممارسات الديمقراطية بالتسرب من بين أصابعنا، وانقسم البلد إلى معارضة هزيلة ومشاركة شامتة وحكومة متوجة بفرقة الشعب وانقسامه الداخلي، تكونت الفرق بقيادات بعض أبناء الأسرة، فتأسست القنوات وطبعت الجرائد وجنّد السذج واشتُري الفاسدون وضاع البرلمان في «صوت واحد» هو الصوت الحكومي بلا صوت يقاطعه أو ينبهه. أردنا أن نكون بلد الدستور فحبس تمثال أبو الدستور في سراب، وغاب دستوره عن المناهج الدراسية وحورب حربا شعواء حتى وهو يمتدح ويبجل، وكأن أسفل كل كلمة ينطقها المنافقون حباً بالدستور سُمٌّ زعاف ومكيدة شنيعة للقضاء عليه.
أردنا أن نكون بلد الحريات والانطلاقة الصحافية، فامتلأت السجون بأصحاب الرأي وكنس المغردون من «توتير» كنسة لم تخلف لهم أثراً، وأغلقت الصحف ومنعت المقالات وتحددت المواضيع وقرئت النوايا وحوكمت المقاصد وأخذ البعض أحكاما لأنه «يفهم من حديثهم أن» و»يبدو أنهم يرمون إلى»، وأغلقت بعض القنوات الخاصة في حين استمرت القنوات الحكومية في أدائها التمثيلي الهزيل، وانتهينا الى سحب الهويات الوطنية ممن حاد عن الصراط وتسبب في الإزعاج ليصبح عبرة لمن يعتبر ولمن لا يعتبر.
أردنا أن نكون بلد قانون فدخلت الواسطة في نخاع نظامنا، وأصبحنا قبل أن نلجأ للمادة القانونية التي قد تأخذ حقنا، نفكر في المعرفة والعلاقة التي تمكننا من غرضنا فتقصر المسافة وإن تخطيناها دعساً على حقوق الآخرين، وحولنا الكويت إلى شبكة علاقات اجتماعية ذات دهاليز خفية، يضيع فيها من لا يملك «خارطة الطريق» الصحيحة.
أردنا أن نكون بلد التقدم العلمي والدراسة العليا الرفيعة، فتدهورت المناهج واغتيلت العلوم الإنسانية والفنون وتكثفت الدراسة الدينية وأصبحت حصة الدين ثلاث حصص، وتغلغلت مادتها في مقررات اللغة العربية، واستورد المعلمون المتطرفون أو صنعوا محليا في مصانع البترودولار، فزادوا على المناهج وتبّلوها وبهروها بتطرفهم وعنصرياتهم. حتى الصرح الجامعي فخر الصناعة الكويتية الستينية اهتزت أركانه من البيروقراطية والمحسوبية والتسييس واشتهرت بعض أركانه بأنها مصدّرة للتطرف، وأخرى بأنها مصدّرة لكوادر ضعيفة ستعمل عملها في إنتاج كوادر مستقبلية أضعف، ووضعت كل شؤونه على الرفّ، فحتى مقره الموعود من الثمانينيات وما قبل لا يزال يعطل بحرائق غريبة وبيروقراطية عجيبة.
أردنا أن نكون بلد التسامح والتنوع، فضاقت الجنسية عن غير المسلمين وعن أبناء الكويتية وعن ستة أجيال من عديمي الجنسية خوفاً على نسيجنا الاجتماعي الذي نسمع به ولا نراه وكأنه أسطورة الحصان الطائر، وأصبحت أموالنا أحد أهم الروافد الممولة للإرهاب ومقرراتنا تعين وتعاون وهي تدرس قتل المرتد وكراهية الكفار بجملة مطاطة عامة، وأصبح الكويتي اسماً «يشن» ويرن في مستنقعات «داعش» السورية والعراقية كما فعل في مستنقعات القاعدة الأفغانية. أردنا أن نكون متسامحين وما استطعنا حتى أن نوفق بين طائفتين متجاورتين من سنوات عدة واستسلمنا للشرّ وخطة «فرّق تسد» التي تطبق علينا منذ سنوات طويلة.
وأخيراً وليس آخراً، أردنا أن نكون مركزاً إنسانياً بل أصبحناه، ونحن نجلس على 120 ألف روح معلقة، من أبنائها من يحرم التعليم ومن شبابها من يحرم العمل، ومن بشرها من يعيش ويموت دون ورقة تثبت مروره بهذه الحياة التعيسة، أصبحناه وقد ضيقنا على الوافدين وأمعنت حكومتنا في إطلاق قرارات متعسفة لحل أزمات نحن نخلقها ثم نرميها مثلما نفعل كل مسؤولياتنا الأخرى على هؤلاء الوافدين، أصبحناه ولدينا أسوأ نظام للعمالة المنزلية ومحسوبية وعلاقات تخطف حقوقهم فتجدهم في المخافر يعانون ويضربون لأن الكويتي يقف مع الكويتي، وكلاهما يقفان فوق القانون في حال تجرأ أحد هؤلاء العاملين فاشتكى، أصبحناه والمرأة تنتقص حقوقها المواطنية فلا هي تورث جنسيتها ولا تملك تزويج نفسها، وتبقى موصى عليها ورهينة قوانين أحوال شخصية تسجنها في عصمة زوجها، أصبحناه والضرب والتعذيب لا يزالان منهجية المخافر وأمن الدولة والمباحث.
حقيقة، أنا لا أعرف حكومة وشعبا يضعان أهدافا على نفسيهما مثلنا.