امرأة تجلد بالعلن من قبل شرطة الشريعة في إندونيسيا بتهمة مخالفة أحكام الشريعة عبر إظهار العاطفة في العلن
الجرائم الصغرى
هذا الاضطراد العكسي بين درجة تديننا وبين ممارساتنا الأخلاقية لا يزال المؤثر الأساسي في كل حيواتنا، بل هو تَحَول إلى محدد رئيسي لهويتنا، هويتنا كشعوب منافقة، بكل أسف، أقولها وأنا أعي قسوة الكلمة. شعوب تبدي غير ما تظهر، تأتي غير ما تعظ، شعوب تأصلت على مفهوم أهمية الظاهر وعدم الانشغال بعفونة الباطن طالما بقي بعفنه مختبئا في الظل.
هذا الاضطراد نراه متحققا في الحالات القصوى كحالات ارتفاع العمليات الإرهابية وممارسات العنف وصولا إلى الحالات الدنيا من الممارسات اليومية كتزوير ورقة طبية للهرب من العمل أو إلقاء قمامة في الشارع أو السخرية اللفظية من الآخرين بسبب أصولهم أو أعراقهم.
كيف نستطيع أن نوائم بين الممارسات العبادية التي تستهلك فترات مهمة من أيامنا مثل ممارسة الصلاة وقراءة القرآن والصيام إبان شهر رمضان وغيرها والممارسات اللاأخلاقية التي يبدو أنها تتحقق بديهيا وكأنها طبيعية الوقوع غير مستنكرة؟
كيف تصلي الظهر ثم تخرج من بيتك شاتما “الهندي” الذي يعمل في بيتك أو “المصري” الذي يدير حسابات مقر عملك، للأسف، كما هو حال النبرة الحالية في الكويت تحديدا تجاه الجاليات المقيمة، المصرية تحديدا؟
كيف يُفَصل المسلم وظيفة الخالق في عقله على أنها خاصة بتقييم العبادات، أما المعاملات فهي شأن “علماني” لا يحاسب الله عليها؟ هل الإجابة في السؤال؟ هل هو اعتقاد المسلم أن الخالق مناط به تقييم العبادات الدينية أما الأمور الدنيوية فهي متروكة لأهل الدنيا وبالتالي هي عرضة لتقديراتهم وتحويراتهم؟ وإذا كان كذلك، فما بال هذه الممارسة البشعة للعلمانية لا تخجل من الظهور مصحوبة بمقاومة بشعة لفكرتها؟
يسأل سعيد ناشيد، المفكر الرائع الذي اتخذته لنفسي صديقا من حيث لا يدري، ألجأ لكتاباته كلما جف رحيق المنطق من حولي، سؤال يصفه بأنه “أشد قسوة” قائلا “لماذا لا يفعلها غير المسلمين؟” (كتاب قلق في العقيدة 21).
يقول ناشيد في عارض جوابه “إنه السؤال الذي يجعلنا نطأطئ رؤوسنا أمام السائلين، خاجلين واجلين، ويُحاصر فينا بقايا من كبرياء، لأننا بعد كل “جريمة شرف” أو عملية إرهابية يذهب ضحيتها مواطنون أبرياء، بعد كل انتحار مجاني في محطة أو مستشفى أو مدرسة أو مقبرة أو حتى مزبلة، نود لو نخفف عنا وزر التهمة القاسية، فنلوذ إلى التبرير ساعين إلى تبرئة ذمة ديانتنا من تلك الجرائم المجانية. وعقب كل محاولة للتبرير، نجد أنفسنا في مواجهة السؤال: لماذا لا يفعلها غير المسلمين؟ أو هكذا نسمعهم يقولون!” (21).
يؤكد ناشيد على تلك الفكرة الحارقة التي طالما شغلتني شخصيا ولربما كل من كبر منا في ظل الثقافة الإسلامية أن “نبدو وكأننا جميعنا مدانون، ما لم نجب على السؤال، وما لم نكن مقنعين في جوابنا ومقتنعين” (21).
حقيقة الأمر المعذب أنه لا يوجد جواب مقنع ذلك لأننا كما يقول ناشيد “انشغلنا كثيرا بتحسين صورة الإسلام، وقليلا ما انشغلنا بحقيقة الإسلام ذاته، كما لو أن الأمر يتعلق بجريمة واحدة عرضية وعلى الهامش، جريمة تم اقترافها عن طريق الخطأ، وليس بمسلسل لا ندري متى وكيف سيتوقف إن قدر له أن يتوقف في ميقات يوم معلوم؟” (22).
لربما يشير ناشيد هنا إلى الجرائم الكبرى التي ترتكب باسم الإسلام، لكن كلامه ينطبق تماما على “الجرائم الصغرى” التي تمارس بشكل يومي دون وعي بتضاربها المفترض مع قيم الإسلام، أو قيم أي دين في الواقع.
فعليا، تتجلى معضلتنا في انشغالنا بالتبرير وبتحسين الصورة، كما يقول ناشيد، عوضا عن الإصلاح الحقيقي للقراءات الدينية التراثية، تلك التي أوعز لها زمنها التاريخي باستحسان العنف كطريقة للتعامل مع الآخرين، تلك التي أوعزت لها ثقافتها القديمة بالقبول بدونية المرأة وتبعيتها، تلك التي أوعزت لها ظروفها الاجتماعية بإقرار عقوبات كقطع اليد والرجم كإجراءات حماية للمجتمعات.
هذه الظروف والمعطيات تغيرت الآن، ومعها يجب أن تتغير القراءات الدينية التي بنيت على ظروفها التاريخية والاجتماعية والثقافية. ولربما أهم إصلاح نفسي فكري حقيقي يجب أن نبدأ به هو إصلاح فكرة رفع المسؤولية الأخلاقية من على كاهل الفرد المسلم، فهذا الفرد هو ناج أيا ما أتى، فمهما كانت ذنوبه، إذا هو ما لم يكن كافرا بالله أو خارجا عن الدين الإسلامي، فهو طائل الجنة ولو بعد حين.
إن هذا التطمين الأناني، وهذا التكبر الأخلاقي، وكأن الانضمام لدين معين هو حماية كافية، وهذه الثقة الأيدولوجية، وكأن الإيمان بعقيدة ما ترفعك فوق الآخرين وتعطيك حقوق إضافية وترقيك منزلة عن باقي البشر تفسح لك المجال أن تخطئ وتزل بما أنك محمي بالعبادات ولديك نظام لمسح الأخطاء، أقول إن كل هذه التطمينات لربما هي الموعزات الأولى والأخيرة للأخطاء القيمية والجرائم الأخلاقية التي لا تريد أن تتوقف في محيطاتنا المحافظة الموغرة في تدينها.
لا بد من قراءات جديدة، فهم جديد، تفسيرات جديدة تعلي الممارسة الاجتماعية الأخلاقية حتى على تلك العباداتية، ودون ذلك، سنبقى هناك، في علياء خلقناه لأنفسنا هو في الواقع حضيض.